اهتزت مالي على وقع هجوم دموي جديد، فجر الثلاثاء، بالقرب الحدود مع موريتانيا، حيث شنت جماعة "ماسينا" المسلحة المنضوية تحت لواء جماعة نصرة الإسلام والمسلمين الموالية لتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، هجوما مباغتا على قاعدة للجيش المالي في منطقة "كوكي"، وأضرمت النيران في مقار الشرطة والدرك، بعد أن اقتحم نحو 200 مسلح على دراجات نارية المواقع العسكرية وسط اشتباكات عنيفة.
هذا التصعيد الخطير على بعد كيلومتر واحد فقط من الأراضي الموريتانية، ينذر بانفجار أمني إقليمي وشيك، ويكشف هشاشة الوضع في منطقة الساحل، وسط ذعر متصاعد بين السكان، وحديث عن خسائر بشرية جسيمة، تدق ناقوس الخطر الجهادي الذي بات يزحف بسرعة الى المنطقة، وتميط اللثام عن بوادر صيف ساخن، بعد دخول المعركة في الساحل مرحلة أكثر تعقيدا، ما يهدد بانتقال الفوضى إلى دول الجوار إن لم يكسر هذا التمدد فورا.
"كرونولوجيا" تطور هذا الخطر الارهابي الذي بات داهما، انطلق من عمق الصحراء المالية، ليتوسع إلى تخوم خليج غينيا، ويصبح رقعة تهديد لا يمكن تجاهاه، بالنظر الى الخطر الكبير الذي تمثله جماعة "نصرة الإسلام والمسلمين" والتي تكبر بوتيرة مقلقة، في وقت تتآكل فيه قدرة دول الساحل على مواجهة المد الجهادي المتصاعد، اذ ان هذه الجماعة، التي انبثقت سنة 2017 من تحالف بين فصائل جهادية متفرقة، لم تعد مجرد لاعب ميداني في رقعة شطرنج الإرهاب في منطقة الساحل، بل تحولت إلى كيان عابر للحدود، ينتشر في مناطق واسعة من مالي وبوركينا فاسو والنيجر، ويلوح بالتمدد نحو دول غرب إفريقيا الساحلية.
googletag.cmd.push(function() { googletag.display('div-gpt-ad-1667386526530-0'); });
حين أعلن إياد أغ غالي، زعيم أنصار الدين، في 2017 انضمامه إلى تنظيم القاعدة وتوحيده الصف مع كل من الإرهابي الجزائري مختار بلمختار قائد جماعة المرابطون، وأمادو كوفا زعيم كتائب ماسينا، وفصائل من إمارة الصحراء الكبرى التابعة للقاعدة، لم يكن كثيرون يتوقعون أن هذا الحلف الجديد سينجح في فرض نفسه بهذه السرعة، إلا أن الجماعة، ومنذ الأيام الأولى، سارت بخطى ثابتة على خطين متوازيين: التوسع بالقوة النارية، والتغلغل عبر النسيج القبلي والديني في المناطق المهجورة من الدولة.
وخلال العامين الأخيرين، وخصوصا مع انسحاب القوات الفرنسية من مالي وتآكل بعثة "مينوسما"، أصبحت الجماعة تتحرك بأريحية غير مسبوقة في شمال ووسط مالي، وامتدت إلى وسط وجنوب بوركينا فاسو، كما رسخت وجودها في المناطق المتاخمة للنيجر، والأخطر أن الجماعة لم تكتف بالبقاء داخل المثلث التقليدي للعمليات الجهادية، بل توغلت في عمق دول مثل بنين وتوغو وغانا، مستغلة هشاشة الأمن الحدودي، والانكشاف الذي خلفته الانقلابات العسكرية وتراجع الثقة في الحكومات المحلية.
وفي معركتها ضد الجيوش النظامية بالدول المستهدفة، شنت الجماعة خلال الشهور الماضية هجمات منسقة على قواعد عسكرية في بوليكيسي، دياباجا، وتيلابيري بمالي والنيجر، موقعة عشرات القتلى، ومستهدفة البنية الأمنية الرسمية بشكل مباشر، وفي موازاة ذلك، تخوض حربا مفتوحة ضد تنظيم الدولة الإسلامية في منطقة الساحل، في سباق لا يخلو من الدموية للسيطرة على الزعامة الجهادية، والتحكم في طرق التهريب، وتأطير المقاتلين المحليين.
وما يثير قلق المراقبين، هو أن "نصرة الإسلام والمسلمين" لم يعد مجرد تنظيم إرهابي، فقد تحول الى سلطة ميدانية قائمة في بعض المناطق مثل شمال ووسط مالي وبوركينا فاسو، والمناطق الشمالية والوسطى في النيجر، مع توسعه نحو دول مثل بنين، توغو، وغانا، إضافة الى نشاط متخفي في أقصى جنوب الجزائر في المناطق الصحراوية المتاخمة لمالي، مع وجود تقارير عن اقامته بتنسيق مع المخابرات الجزائرية، طرقا لتهريب الأسلحة.
وكذلك بعد تمكنه من إدارة المحاكم في بعض المناطق المذكورة، وفرض الزكاة، وحل النزاعات القبلية، وتوفير "الحماية" للسكان داخل الامتداد الجغرافي الخارج عن قبضة جيوش المنطقة، اذ يجد بعض السكان أنفسهم مضطرين إلى الانخراط في هذا النظام الموازي، بسبب غياب حضور الدولة، وعجزها عن تأمين أبسط مقومات الحياة والخدمات، وهذا ما جعل الجماعة تجند بسهولة من بعض الفئات القبلية، خصوصا في أوساط الفولاني والطوارق، حيث العزلة والتهميش مهد خصب للتمرد.
من جهة أخرى، لا يمكن فهم التمدد السريع للجماعة دون التوقف عند الشبهات المتزايدة حول صلاتها ببعض الأجهزة الاستخباراتية الإقليمية، خصوصا بتداول تقارير متعددة، بعضها صادر عن دوائر أوروبية، لمحت إلى أن الجزائر تغض الطرف عن تحركات الجماعة، وتوظفها بشكل غير مباشر كأداة تأثير في منطقة الساحل، علاوة على الاتهامات المباشرة التي وجهتها مالي، في ابريل الماضي للنظام العسكري في الجزائر، بدعمه للإرهاب في المنطقة، خصوصا بعد اسقاط الدفاعات الجوية الجزائرية طائرة مسيرة تابعة للجيش المالي، كانت بصدد تنفيذ عملية عسكرية ضد عناصر مسلحة تابعة لهذه الجماعة في المنطقة الحدودية بين البلدين. وفقا لمصادر من الجيش المالي.
التقارير ذاتها كشفت، ان إيران هي الأخرى على علاقة وطيدة بجماعة نصرة الإسلام والمسلمين، وان كانت تسلك مسارات أكثر تعقيدا، من خلال شبكات تهريب سلاح تمر عبر السودان والنيجر، وبوساطة من جماعات مسلحة تحمل طابعا سنيا لكنها ترتبط بمنصات تهريب إقليمية معروفة بتلقيها دعما إيرانيا.
الخطير في هذه الجماعة أنها لا تحارب بأسلوب تقليدي، بالنظر الى انها ليست فقط تنظيم إرهابي، بل انها تعمل على تنزيل مشروع دولة بديلة، بقوة السلاح، وبالتأثير الديني، حتى أن بعض المحللين الغربيين، يلقبونها بـ"طالبان الساحل" ، لكونها تستفيد من الانهيارات المتتالية في المنظومة الأمنية في دول الساحل الافريقي، وتملأ الفراغ بحكم مواز، يصعب اختراقه أو هدمه بمجرد القوة العسكرية.
وعلى هذا الأساس، فان جماعة "نصرة الإسلام والمسلمين" تضع شمال غرب إفريقيا أمام تحد استراتيجي لا يحتمل التسويف، فقد تحولت الى خطر زاحف، يربط الجهاد العقائدي بالتكتيك العسكري، ويجمع بين التحرك الميداني والشرعية القبلية، وإذا لم توضع خطة إقليمية ودولية جدية لاجتثاثها من الجذور، مع تنسيق إقليمي ودولي فعال، فإن المنطقة مرشحة لتكون مسرحا لانفجار أكبر، تقوده جماعة بدأت كتحالف مسلح، وتحولت اليوم إلى ما يشبه "دولة ظل" تفرض إيقاعها على الجغرافيا، والقبائل، وحتى الأنظمة.