أنطولوجيا حوارات حميد برادة درس في الأحاديث الصحافية

جمال المحافظ الاثنين 09 يونيو 2025
56b5dd0c-af19-4019-b482-b119e64ed927
56b5dd0c-af19-4019-b482-b119e64ed927

يشكل مؤلف أنطولوجيا، لصاحبه حميد برادة، درسا بليغا في مجال الحوار الصحافي، وهو مؤلف يؤرخ لأحاديث أجراها الصحافي المخضرم خلال المرحلة الممتدة ما بين 1977 و 2012، ونموذجا تطبيقا مهنيا رفيعا لهذا الجنس الإعلامي الذي لا تخفى أهميته في ميدان الصحافة.

فهذه الأنطولوجيا الصادرة باللغة الفرنسية سنة 2025، هي أكثر من حوارات صحافية مختارة، من لدن حميد برادة الصحافي والمثقف التي يرسم بواسطتها، ملامح ذاكرة نشطة حول تاريخ المنطقة المغاربية والقارة الافريقية ومسارات الأنظمة الناشئة في فجر استقلال بعدد من البلدان، كما جاء في ظهر الكتاب الواقع في أزيد من 700 صفحة من القطع المتوسط.

بحضوره النموذجي كصحافي متخصص في الحوار والتحقيق، ينسج حميد برادة، علاقة حميمية مع محاوريه، من خلال قيامه باسترجاع شظايا ذاكرة متناثرة، ويستعد من خلال زمن حكى أوجها من التاريخ الغني، الحفر في ثغرات الروايات الشخصية.

فمن خلال قيامه بتقديم أصوات محاوريه الذين طبعوا مرحلتهم ، بطابعهم الخاص، ( مناضلون، كتاب، منفيون، مدانون، ثائبون، منفيون، محكومون بالإعدام من بينهم حميد برادة، وهو ما يجعل "انطولوجيا الحوارات" التي هي ليست مجرد شهادات فقط، لكنها أيضا بمثابة تكريم لمحاورين استثنائيين، وهذا التوازن الحاد، الذي يتحول فيه الحوار الصحافي إلى فن راق، وهو بلا شك الأسلوب الذي يتميز به صاحب الكتاب .

ففي الوقت الذي أجرى أول حوار تتضمنه هذه الانطولوجيا، عندما كان حميد برادة يبلغ 37 عاما، لكن كان في هذا السن رغم ذلك يجر ورائه، حياة أخرى، حياة نضالية، جايل خلالها عدد من وجوه اليسار المغربي، كما يذكر الكاتب والباحث والمترجم عمر برادة في مقدمة هذه الانطولوجيا التي تتضمن 35 حوارا صحافيا أجراه حميد برادة مع شخصيات من عوالم السياسة والثقافة والنضال، طبعت مراحل من التاريخ السياسي لدول مغاربية وإفريقية في مرحلة ما بعد الاستقلال، في مقدمتهم الراحل الحسن الثاني الذي خصه بأول حديث يجريه مع صحافي مغربي، وليبولد سيدار سنغور الرئيس السنغالي الأسبق، وأحمد بن بلة أول رئيس جزائري.

فحميد برادة، كان يهوى كذلك محاورة شخصيات، تفضل الابتعاد عن الأضواء والاشتغال في الظل، وتتضمن الإنطولوجيا في هذا الصدد، حوارا مع كل من وسيلة بورقيبة عقيلة الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة، ومحمد رضى اكديرة مستشار الحسن الثاني. كما اهتم في هذه الحوارات التي يحتوى عليها الكتاب، بالزعماء السياسيين من الحركة الوطنية من الذين ناضلوا من أجل الاستقلال بالمغرب كعبد الرحيم بوعبيد وعبد الرحمان اليوسفي والفقيه البصري، أو بالجزائر منهم الحسين آيت أحمد ومحمد حربي.

كما تضمن الكتاب حوارات مع شخصيات فرنسية من الذين لهم معرفة جيدة وقرب من افريقيا مثل جان لا كوتير وميشيل جوبير وأوبيرت فيدرين. وأخيرا أجرى المؤلف عدة حوارات مع عدد من المفكرين والكتاب كعبد الله العروي ورشيد الميموني وجمال الدين بن الشيخ وأسية جبار، ومحمد الطوزي .

فمن خلال قراءة هذا المؤلف، يتضح بجلاء، أن صاحبه يعيش السياسة كمغامرة روائية. فحواراته فضلا عن كونها توفر زادا غنيا من الأخبار، فإنها تترك مجالا لتحريك الخيال، حسب عمر برادة.

كانت أنطولوجيا حوارات حميد برادة، قدمت ضمن فعاليات البرنامج الثقافي لمجلس الجالية المغربية بالخارج في 27 أبريل 2025 في ختام الدورة 30 للمعرض الدولي للنشر والكتاب بالرباط، وذلك بحضور فعاليات من عالم الفكر والإعلام والسياسة والثقافة، سلط فيها بالخصوص الضوء على التاريخ السياسي العربي، خاصة بعلاقته بفرنسا، ما بين سنوات 1970 و 2000.

كما أماط اللثام على مجموعة من " أسراره " و منها المصادفة التي جعلته يعبر عن موقفه الرافض لحرب الرمال سنة 1963 من قلب الحزائر في نفس اللحظة التي كان الشهيد المهدي بن بركة يعبر فيه عن نفس الموقف من قلب القاهرة دون سابق تنسيق بينهما و هو ما كلفهما حكما غيابيا بالإعدام.

يظل حميد برادة، علامة فارقة في التاريخ المغربي الراهن، وهو ما يجعل الأجيال الجديدة من الباحثين و الصحفيين مطالبة بالنهل من تجربة وإنتاج قلما نجد شخصا مثله متمكن في المعرفة العميقة بنخب و مجتمعات و عقليات الفرنسيين و الجزائريين والمغاربة، حسب الجامعي والباحث في العلوم السياسية محمد الطوزي في معرض قرائته للإنطولوجيا في لقاء مجلس الجالية المغربية بالخارج بالمعرض. كما أشاد الطوزي بمهنية الكاتب العالية و على مصداقيته و تقيده بضبط المعطيات والتأكد من المصادر قبل نقلها إلى الجمهور ..

حميد برادة تحدث من جهته عن مساره السياسي والنضالي، وانخراطه السياسي وعمله كصحافي في فرنسا وفي المغرب، موضحا أن ما ميز تجربته هو "الحرية في الدفاع عن الأفكار حتى وإن كانت لا تحظى بالقبول". كما توقف عند عدة محطات من التاريخ السياسي الوطني، والسياقات التي رافقت إعداده للحوارات التي أجراها، وبعض الذكريات التي جمعته مع أهم الشخصيات التي احتك بها في مساره المهن الطويل.

ويشير كتاب " أنطولوجيا الحوارات" إلى أن حميد برادة الذى ازداد في ثالث دجنبر 1939 بطنجة،ينحذر من أسرة وطنية، تم نفيها من فاس خلال المرحلة الاستعمارية، هو صحافي ومثقف مغربي، ترعرع في " المنطقة الدولية، بطنجة"، وتتلمذ بالمدرسةالاسلامية الحرة التي كان مديرها آنذاك العلامة عبدالله كنون، وبعدها التحق بثانوية ( ريكنولت).

ومنذ فترة شبابه، انخرط في العمل السياسي، وانتخب سنة 1962، رئيسا للاتحاد الوطني لطلبة المغرب. ونتيجة نشاطه السياسي حكم عليه بالاعدام غيابيا سنة 1963، وغادر الى الجزائر لاجئا، قبل أن ينتقل منها الى فرنسا التي ظل مقيما بها الى غاية سنة 1978 بعد استفادته من العفو ليعود الى بلاده الأصلية.

حميد برادة الحاصل على دبلوم في الفلسفة والحقوق ، والسوسيولوجيا السياسية، التحق بمجلة " jeune Afrique " وأصبح كبير المراسلين بها، وتولى بعد ذلك رئاسة تحرير هذه المجلة الصادرة بباريس ما بين 1974 و1985 .كما كان متعاونا دائما معها، قبل أن يعين مديرا المنطقة المغاربية والشرق الأوسط بها. 
كما قام حميد برادة المقيم بالدار البيضاء، منذ سنة 2012، بتنشيط البرنامج الثقافي Mais Encor على القناة الثانية ما بين 2007 و2018 فضلا عن إعداد برنامجين وثائقيين .وشارك المؤلف الأستاذ الجامعي الى غاية احالته على التقاعد، كشاهد في الجلسات المغلقة لهيئة الانصاف والمصالحة التي تم تأسيسها سنة 2004 . 
فمثل حوارات برادة - كما هو شأن الكتابات الصحافية - قد تسعف الباحث في رصد واستقصاء وقائع التاريخ السياسي والاجتماعي والإعلامي، مع العلم أن بدايات الصحافة في غالبيتها ارتبط بالعمل السياسي والثقافي. 
غير أن الكتابة في الصحافة، بصفة عامة، قد تخضع لقراءات متعددة، وتحليلات مختلفة، ويكون بعضها، خارج النص، بالتركيز على مواقف الصحافي أو الكاتب، وأحيانا متحاملة، ولا تنفذ الى عمق ما هو منشور، على الرغم من أن صاحبها قام بما يلزم وما لا يلزم حتى من " رقابة ذاتية" واحترازات.