20فبراير، 2011, كنا في الساحة. ساحة
الحمام.
لم يكن لدينا ترامواي في الدار البيضاء، كانت لدينا ساحة كبرى أمام المحكمة. وحين اقترحت على من كان زميلا لي حينها، صديقي جمال زايد، أن "نهرب" من يقظة "سي محمد البريني"، ومن اعتقال هيئة التحرير لنا لكي نرى مايقع في "الخصة"، ابتسم بشغبه العادي والمعهود وقال لي "مشينا"، فذهبنا.
googletag.cmd.push(function() { googletag.display('div-gpt-ad-1667386526530-0'); });
قلنا لأنفسنا يومها إن الاكتفاء بتلقي أخبار الساحة، وبقية الساحات، عبر الهاتف أمر لايليق، لأننا صحافيون في جريدة مجتمعية ميدانية جعلت من قانون القرب نبراس عمل لها، وقلنا أيضا إن الأصل في مهنتنا هو عيش مايقع من داخله، وقلنا أمورا أخرى كثيرة، فقط لكي نجد المبرر لنا للنزول إلى "الحمام"، والهروب من هدوء قاعة التحرير القاتل يومها.
صدحت الساحة بالشعارات، وذات هنيهة تعب، اقترحنا معا، جمال وكاتب الأسطر، على نفسينا استراحة داخل "الكلوب" المجاور للساحة.
قلنا ضاحكين على سبيل التندر الساخر: "سندخل إلى النادي، سنأكل ونشرب ماتيسر، وعندما ننتهي سنجد أنفسنا أمام مشهد من إثنين: الساحة وقد امتلأت بالبيضاويين أكثر، أو الساحة وقد نفضت عنها غبار هذا النداء، وعادت إلى الحياة العادية والطبيعية التي تعرف".
خرجنا منتشين من النادي، فوجدنا قلة قليلة من الناس تطالب بالمبيت في الساحة، فيما الأغلبية غادرت إلى محلات التقائها، (أصلا النادي امتلأ منذ دخلناه بكل الذين أتوا للتظاهر، ثم تعبوا فدخلوه واكتفوا به في الختام).
في بقية مدن المغرب، كان الأمر على الشكل ذاته. رأى الناس على شاشة "الجزيرة" وغيرها أحداثا جساما تقع تلك السنة الغريبة من حياة البشر، فقرروا الارتماء في أحضان كذب الربيع العربي، وحمل كل واحد منهم هذا الفصل الغريب أوزار كل استيهاماته، وانتهت الأمور على كل حال بما وعلى ماانتهت إليه مما يعرفه الجميع اليوم، سواء في تونس التي غيرت بنعلي بقيس "أكرف منو"، أو مصر التي بقيت في الخاطر سالمة رغم "هولد آب" القرضاوي و الإخوان الفاشل، أو ليبيا التي سأل القذافي شعبها بعد أن حكمهم نصف قرن "من أنتم؟"، أو سوريا التي استمرّ فيها الموت حتى وقت غير بعيد، ولعله لازال قائما هناك اليوم، فبقية البقية.
من الملامح التي التقطناها حينها إسمان: أسامة الخليفي، وسعيد بنجبلي، ولعلهما بالنسبة لي التلخيص الأمثل لحكاية 20 فبراير كلها.
لعلهما الاختصار المفيد لرحلة التيه التي تبدأ شعارا كبيرا، يلتقطه (أذكياء) أكثر من اللازم، فيوظفونه لصالحهم من خلال اللعب بصغار حالمين طموحين، وتوريطهم في أمور لاقبل لهم بها، قبل نفض اليد من غبارهم، وتركهم وحدهم عرايا يواجهون واقعا أكبر منهم بكثير.
سألت أسامة رحمه الله، عندما استضفناه في "قفص الاتهام" إن كان يعرف أن "لوموند" وهي تكتب عنه عنوانا خادعا وأكبر منه بكثير، اغتالته وانتهت منه قبل أن يبدأ.
لم يجبني، أو لعله لم يرد الإجابة، لكنه تذكر السؤال بعدها بسنوات كثيرة، حين كان يمر من أزمته الأخيرة قبل التحول إلى مكناس، وقال لي وهو يحدد موعدا للمجيء إلى الدار البيضاء من أجل لقاء لم يتم "عقنا معطلين آفلان".
سعيد هو الآخر، رحمه الله، (عاق معطل) بعد أن ضيع في أوهام الآخرين عمره، من مجانين القومة الخرافية في "الجماعة" إياها، حتى أكاذيب التدوين في عهد حكومة الإسلاميين. فانتهى به الحال صادقا مع نفسه حد الجنون في عيون الآخرين، فقط لأنه انتبه للفخ المنصوب بعناية، فحاول الإفلات منه، ولم يستطع، وبقي رهين المصيدة حتى الرحيل المختار بعناية شديدة أو بإهمال أشد، والله أعلم.
المهم، أسامة وسعيد، وجهان حزينان لحلم مغربي وجد أمامه كوابيس كثيرة، ففقد القدرة على المقاومة، واختار أن يتحول وهما واستيهاما ورؤى ومنامات وجنونا وخروجا عن العقل والمنطق واستسلاما لكل الحماقات.
لعله في نهاية النهاية الحل الوحيد أمام غياب العقل عن الجموع: الخروج عنه، إلى ساحة التحرر من كل شيء، والصراخ عاريا أمام الملأ، أن قد "تعبت، وحان الآن وقت الرحيل".
هكذا تحدث أسامة، وهكذا تحدث سعيد من بعده، وهكذا طار الحمام من تلك الساحة، وهكذا بقي المنتشون داخل النادي القريب منها، يشربون يوميا نخب كل الهزائم، ويصيحون بكل صخب "صحة" في وجه كل انكسار جديد…