أتساءل فقط حول ما وقع بالفيندق: هل كان الحدث هو الهجرة الجماعية أم ارتداداتها (ما تلاها من بروباغوندا) ؟
وفق أي زاوية يمكن تحليل ما وقع يوم 15 شتنبر؟ وهل الأمر يحتاج أصلا للنظر والتحليل؟ أم للبحث والتحقيق؟ أم للفعل ورد الفعل؟ أم يحتاج فقط للتعليق المغلف بالانفعالات ثم المرور؟
إذا كان الأمر ظاهرة جديدة لم يسبق لها أن حدثت، فأي "حقل" جدير بتشريح أسبابها وعواملها ونتائجها؟ وإذا كان ما وقع مفهوم بشكل جيد ولا يحتاج إلى نقاش حتى مع النفس، فماذا يفترض أن يليه: العودة إلى ما سبق أم تحديد وضع جديد بشروط جديدة؟
googletag.cmd.push(function() { googletag.display('div-gpt-ad-1667386526530-0'); });
منذ القدم كانت الهجرة إلى أرض الله الواسعة حلا من الحلول البشرية لأزمات ومشاكل اقتصادية واجتماعية وسياسية وثقافية، وشكلت لطالبها بداية جديدة في وسط جديد وبإمكانيات جديدة.
خلقت الحدود وضعا جديدا، وقيدت هذه الحركة التي امتدت لقرون وكانت سببا في نشوء ودول وبلدان جديدة وتلاقح ثقافات وحضارات وعولمة جزء من قيمها، بل كانت هي أصل إعمار مناطق مهجورة ومعزولة من الأرض.
حولت الحدود عملية الهجرة إلى فعل عقلاني ينفذ وفق شروط محددة درءا للفوضى، لكن في عدد من المناطق الحدودية بين البلدان كانت عدة عوامل تدعو البشر إلى ممارسة هذا الفعل كما اعتاد عليه قبل ضبط التنقلات وفق سيادة الدول.
بهذه الطريقة أصبحت الضوابط القانونية تقنن ممارسة هذه العملية وكل هجرة خارجها تنعت بالهجرة غير الشرعية.
في المغرب شكلت الهجرة نحو الضفة الشمالية للمتوسط حلما مغريا غامر الكثيرون بحياتهم لتحقيقه، وقضى عديدون نحبهم بين أمواج البحر، أو على السياجات الحديدية، مغاربة وأجانب من الدول المجاورة أو من دول جنوب الصحراء، أو حتى من سوريا هربا من الحرب والجماعات الإرهابية.
عدد آخر نجح في إنشاء حياة جديدة بالمهجر، وأصبح نموذجا يحتذى به من طرف الحالمين بالهجرة.
المغرب نفسه أصبح ملاذا للمهاجرين من بلدان تهددها الحروب والأزمات والأوضاع الصعبة التي تعيشها بعض الدول الإفريقية، التي رحل عنها الكثير من أبنائها متخذين من المغرب مرحلة للعبور نحو أوروبا، لكن عددا منهم حول هذه المرحلة إلى فترة للاستقرار دائمة أو مؤقتة، مما أدى إلى بروز وضع جديد.
هذا الوضع تعامل معه الملك محمد السادس بالكثير من الحكمة وبانسجام مع السياق الإقليمي والعالمي، ودافع عنه في المنتديات الدولية، بعد أن احتضن المهاجرين الأفارقة ووضع سياسة مضبوطة للراغبين في تسوية وضعية إقامتهم وفق شروط معينة ، كما أن جلالته كان وراء إنشاء المرصد الإفريقي للهجرة، وأصبحت الرؤية الملكية في هذا المجال رائدة على المستوى القاري والعالمي باعتبار أن الهجرة هي وسيلة للتنمية أيضا في دول الاستقبال.
السلطة التنفيذية وأصحاب القرار والمسؤولون الترابيون والسياسيون والفاعلون الحكوميون والإداريون في مختلف القطاعات الذين كان من المفروض أن يواصلوا المسير ويبدعوا حلولا واقعية تنسجم والظروف المنتجة لهذه الظاهرة، عملوا بمبدأ: "كم حاجة قضيناها بتركها" !
ندخل بيت القصيد، وهو ارتدادات ما وقع في الفنيدق على المجتمع.
لقد حرك الحدث الكثير من العواطف الجياشة، لا سيما أن مدبري هذا المخطط ركزوا على الإعداد النفسي لـ"الجمهور " من خلال الفيديوهات والبوسطات والتدوينات على مواقع التواصل الاجتماعي التي انتشرت مع دعوات الحريك الجماعية قبل 15 شتنبر. المستهدفون حملوا حقائبهم على ظهروهم، أما الباقي فاقتعدوا المدرجات للمتابعة والمشاهدة والتعبير عن التعاطف الكامل تارة، والسخط تارة أخرى، وتشارك المعطيات المصورة والمدونة على فضاءات التواصل، ثم التعليق المنساق وراء الانفعالات، والمتعاطف مع المشاهدات: صورة طفل صغير.. وهذا ما قاله، صورة امرأة تبكي محنتها.. وهذا ما تحكي عنه، صور محاولات الهجوم.. وهكذا وقع، صور شبان عراة في حالة توقيف من طرف القوات العمومية، صور محاولات الهجوم على باب سبتة وانتشار حشود المرشحين للهجرة في المرتفعات المحيطة بها.
كلما نقرت على عنوان كان هناك المزيد من الصور والمعطيات والبيانات والأشرطة...
لقد كانت هذه المشاركة سلبية، إذ أنها لم تؤثر قط في الحملة الجماعية، بل زادت من حجم كرة الثلج التي كبرت كثيرا وتدحرجت لتصطدم في النهاية مع القوات العمومية على معبر باب سبتة.
على المستوى الأمني والقانوني كان رد الفعل إيجابيا ومهنيا، باستثناء بعض المشاهد التي أمرت النيابة العامة بالتحقيق حول صحتها لاتخاذ الإجراءات اللازمة. لكن التنسيق الأمني وحجم حضوره والتدخل في الوقت المناسب جنب المنطقة أحداثا كان من الممكن أن تكون أكثر عنف مع تزايد أعداد المرشحين للهجرة السرية الذين رشقوا القوات العمومية بالحجارة، ولعل أحداثا سابقة تشهد على ذلك، وتبين تطور المقاربة الأمنية في التعامل مع مثل هذه الأوضاع.
هذا مع العلم أن أحداثا مشابهة وقعت في صيف 2022 وكشفت التحقيقات الإسبانية أن مافيا جزائرية مختصة في التهجير والاتجار بالبشر كانت وراءها، كما كشفت عن مخبئها والأسلحة البيضاء التي زودت بها المرشحين للهجرة، وكل ذلك وثقه الاعلام الاسباني.
الفقر، التهميش، الإقصاء، الأمية، البطالة، الأزمة الاقتصادية... هي كلها عوامل تقف وراء عدد من الظواهر الاجتماعية، ولعلها أيضا أسباب لها يد فيما وقع، غير أن حدث الهجرة غير الشرعية في سياقه الحالي ليس بريئا براءة هذه الظواهر التي تعيشها المجتمعات والتي يعتبرها السوسيولوجيون سليمة اعتبارا لتوفر شروط معينة.
والسبب واضح جدا بكل بساطة لأن أياد خفية حولته إلى "فرجة". وهنا مربط الفرس، لا نتحدث عن النقل الإعلامي أو العمل الصحافي، بل المقصود هنا ما تفعله مواقع التواصل الاجتماعي في العالم بأسره، وكيف تشتغل بمنطق "الفرجة" والتسويق، حتى تحولت إلى آلة للربح وأداة سياسية ولوبي إعلامي خارج الإعلام المنظم والمقنن.
عندما يتحول الحدث إلى فرجة لا أحد يبحث في الأسباب والنتائج، إذ ما يهم هو المتعة، بغض النظر عن الألم الذي يرافق الأحداث. فكلما ارتفعت جرعة المتعة كلما كان تسويق الحدث بشكل سريع وفعال وبالمجان أيضا اعتمادا على "يد الجماعة"! ولا يتوقف ذلك عند ترويج الصور والفيديوهات وفق سيناريوهات يطبعها التشويق، ولكن أيضا بالتعليقات التي ترافقها وتعكس مشارب الفئات المستهدفة والشرائح الاجتماعية المتابعة للحدث، وقد يقتضي الأمر الاستعانة بالتصريحات والشهادات السابقة سواء كانت صحيحة أو مضللة، وإذا اقتضى الحال الاستعانة بكائن سياسي تحللت جثته وفاحت رائحتها، فلا حرج في ذلك، خاصة إذا ما كانت تزيد من حجم كرة الثلج.
غير أن ذلك لا يبرئ أحدا لا سيما على مستوى المسؤوليات غير المباشرة التي تتراكم لتؤدي في النهاية إلى مثل هذه الأحداث، وهي مسؤوليات مشتركة تبدأ بالفاعل الحكومي وتنتهي إلى أهم نواة في المجتمع وهي الأسرة مرورا طبعا بالمدرسة.
.