الكراوي : انخراط المغرب المبكر ومبادراته تجعل منه رقما أساسيا في المعادلة الإفريقية

الثلاثاء 16 ديسمبر 2025
No Image

يوجد المغرب، حاليا، في قلب الدينامية التي تشهدها القارة الإفريقية على أكثر من صعيد . المملكة التي انخرطت، منذ ربع قرن تحت قيادة جلالة الملك محمد السادس في شراكات مع العديد من الدول الإفريقية تحت مبدإ " رابح رابح"، توجت هذا المسار بإطلاق المبادرة الأطلسية، لفتح منح بلدان الساحل إمكانية الوصول إلى المحيط الأطلسي في خطوة جريئة واستباقية على الصعيد الجيو-اقتصادي. في هذا الحوار تستطلع مع إدريس الكراوي، رئيس الجامعة المفتوحة للداخلة ومنتدى الجمعيات الإفريقية للذكاء الاقتصادي،دور المغرب، والأقاليم الجنوبية بالذات في هذه الدينامية الجديدة .

يعيش العالم حاليا على وقع تحولات متسارعة. من موقعكم أيضا كاقتصادي ما هي حظوظ القارة في ظل هذا السياق غير المسبوق؟

يشهد العالم تغيرات جذرية أفرزت خريطة توازنات اقتصادية وجيوسياسية وجيواستراتيجية جديدة تولد عنها جيل جديد من الحروب والصراعات والأزمات تزداد خطورة وتدميرا بصفة متنامية. كما يشهد العالم ظهور حالات انعدام الأمن الغذائي والمائي والطاقي والصحي،تفاقم تأثيرها من جراء هشاشة قطاعات اقتصادية كاملة وفئات عريضة من المجتمعات البشرية دون تمييز في الغرب والجنوب الشامل. وتتطور كل هذه الحقائق، علاوة على ذلك، على خلفية تفكك النظام العالمي، بفعل استحالة موضوعية لقيادة مؤسسية موحدة ومنسقة ومشتركة لحكامة عالمية مسؤولة ومتضامنة.

في هذا السياق، نشهد تراجعاً تدريجيا ومستمراً وحقيقياً للغرب، وعلى رأسه أوروبا والولايات المتحدة، حيث الآفاق الاقتصادية قاتمة والديمقراطيات تتفكك، يوازيه ظهور جنوب يستيقظ وبدأ يشكل تحالفات جيو-اقتصادية وجيو-سياسية،وجيواستراتيجية وعسكرية للتأثير على موازين القوى في المستقبل.

وفي هذا الإطار، وعلى الرغم من التحديات الكثيرة التي تواجهها، تستعد إفريقيا، التي تشكل جزءاً لا يتجزأ من هذا الجنوب الشامل، لتصبح قاطرة الاقتصاد ومحور النمو العالمي الجديد، وسوق المستقبل، والمختبر المتميز للتحولات والانتقالات الكبرى،بما في ذلك على الصعيد المجتمعي. ومع ذلك، لكي تربح إفريقيا هذا التحدي في ظل موازين القوى الحالية، ستحتاج إلى استراتيجية للنمو المشترك تدعمها جميع الأطراف الفاعلة والقوى الحية بالقارة.

-انخرطت المملكة مبكرا في شراكات مع دول القارة تحت مبدإ "رابح+رابح". كيف ترون حصيلة هذا الخيار الاستراتيجي، بالنسبة للمغرب والقارة، بعد حوالي ربع قرن من الآن؟

تتجلى حصيلة الانخراط المبكر للمغرب في شراكات مع العديد من الدول الإفريقية تحت مبدإ " رابح رابح" في عدة مؤشرات اقتصادية،وسياسية وثقافية،وروحية،وجيواستراتيجية،ودبلوماسية،وأمنية وعسكرية. فعلى صعيد مختلف هذه الأصعدة،نلاحظ تطورا ملموسا ذو منحى تصاعدي توج على صعيد قضية وحدتنا الترابية بارتفاع عدد القنصليات العامة الإفريقية المعتمدة بالأقاليم الجنوبية والتي انتقلت من قنصلية واحدة سنة2019 إلى ما يناهز 24 قنصلية إلى حدود شهر اكتوبر2025.

على صعيد حجم المبادلات التجارية التي انتقلت من 533 مليون دولار سنه 1999 إلى 5.46 مليار دولار سنة 2024 بنسبة ارتفاع تعادل 460%. كما أن عدد المقاولات المغربية المستوطنة في إفريقيا ارتفع من حوالي 25 سنة 1993 إلى ما يفوق 500 مقاولة سنة 2023. أما في مجال الاستثمارات المغربية في إفريقيا، فان التطور هنا كذلك ملموس، حيث انتقلت هذه الاستثمارات من 50 مليون دولار سنه 1999 إلى 7.3 مليار سنة 2022، هذا فضلا عن التطور المتنامي للتعاون الأمني والعسكري الذي عرف نموا كبيرا منذ الرجوع التاريخي للمغرب لبيته الأصلي داخل الاتحاد الإفريقي سنة 2017.

- بعد إطلاق المبادرة الأطلسية، من طرف جلالة الملك محمد السادس، تبدو الأمور سائرة نحو أفق جديد. كيف ترون دور هذه المبادرة في إحداث واقع جديد للقارة؟

إن هذه المبادرة تعد من المبادرات أكثر جرأة التي أطلقها المغرب من الناحية الجيوستراتيجية وأكثر ابتكارا من الناحية السياسية والدبلوماسية و أكثر وجاهة أيضا ونجاعة واستباقية على الصعيد الجيو اقتصادي، وذلك بالنظر إلى عدد الدول المعنية بها وهي 23 دولة، ووزنها الديموغرافي والاقتصادي و خصوصيات أنظمتها السياسية وتنوع تموقعها الجغرافي وتعقد الإشكاليات التنموية والأمنية والعسكرية التي تواجهها. فبقدر ما أن هذه المبادرة ستفتح آفاقا حقيقية لهذه الدول على صعيد تطوير بنياتها التحتية وإحداث أنشطة اقتصادية جديدة ذات آثار جدب ايجابية على مستوى التشغيل وتيارات الهجرة القارية فإنها ستؤسس لجيل جديد من الاندماج الجهوي بإفريقيا، من ضمن نتائجه المباشرة من جهة فك العزلة على ثلاثة دول كبرى وهي بوركينا فاسو ومالي والنيجر عبر تمكينها من ولوج المحيط الأطلسي، ومن جهة أخرى توسيع مجالات التعاون بين البلدان المعنية ليشمل كذلك أوروبا و الأمريكيتين و آسيا والعالم العربي عبر المغرب، جاعلا بهذا هذه المنطقة محورا مستقبليا رئيسيا في التجارة الدولية.

-في نظركم ما هي المجالات التي يتعين التركيز عليها في هذا الإطار؟

عندما نقوم بلوحة فحص دقيقة للأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية والأمنية والعسكرية والبيئة، فان كل مجالات تبدو ذات راهنية وأولوية و ذات طابع استعجالي.

لكن طبيعة التحديات المرحلية توحي بضرورة إيلاء أهمية قصوى للأمن الغذائي والدوائي والمائي، وللسيادة العسكرية،والأمنية والثقافية والروحية، فضلا،عن ضرورة توفير الشروط الموضوعية لإنجاح الانتقالات الكبرى، وهي الانتقال المناخي والطاقي والرقمي والانتقال المتعلق بالذكاء الاصطناعي.

وجلها تحديات تتطلب موارد مالية ضخمة وراس مال بشري مؤهل ومؤسسات قوية تقودها نخب مسؤولة وملتزمة بقضايا اوطان وشعوب قارتها.

- الموارد الطبيعية والموقع الاستراتيجي، مؤهلات، رغم أهميتها، تبقى غير كافية . ماذا عن العنصر البشري؟

بالفعل، إن أكبر وأخطر وأجسم تحد، تواجهه القارة الافريقية يكمن في مدى قدرتها على التوفر على راس مال بشري في مستوى طموحاتها. ونعني بالرأسمال البشري ثلاثة عناصر رئيسية : نخب وكفاءات وابتكارات. مما يستوجب بالضرورة إصلاح المدرسة الإفريقية بجميع مستوياتها من الأساس الى الجامعي مرورا بالابتدائي والإعداد والثانوي من جهة، ومن جهة أخرى بناء منظومات وطنية و قارية قوية للابتكار والبحث العلمي والتكنولوجي. فإفريقيا، التي تمثل 7% من ساكنة العالم لا تتوفر الا على 2.4%من العلماء،و لا تنتج سوى 2.6% فقط من المقالات العلمية الصادرة في المجلات المحكمة برسم سنه 2019. كما أن القارة لا تمثل سوى نسبة 1.3% من النفقات العالمية المخصصة للبحث والتنمية و 2.6% فقط من المنشورات العلمية المحصاة على الصعيد الدولي، فما لم تعط إفريقيا كامل العناية و فائق الأهمية لرفع تحد أزمة المدرسة، ومن خلالها رفع تحدي إنتاج وإعادة إنتاج النخب العلمية والثقافية والاقتصادية والسياسية والإدارية والإبداعية في شتى المجالات الحيوية، وتحدي معالجة تكوين الكفاءات والمهارات لمواكبة التطور في مختلف القطاعات المنتجة للثروة في القارة في تجلياتها الصناعية والفلاحية والخدماتية، ومعالجة تحدي الابتكار المرتبط بكل هذه المجالات والقطاعات، كما أنه إذا لم تقم إفريقيا بما يلزم للتوفر على راس المال البشري رفيع المستوى فمن الصعب جدا ان تختصر بلدانها المسافات الضرورية لربح رهان بناء إفريقيا جديدة وقوية قادرة على أن تلعب دور القاطرة المستقبلية للعالم الجديد، عالم الفكر والعلم والمعرفة والذكاء والنبوغ والابتكار في تمظهراتها الرقمية والاصطناعية.

- ما هي استشرافاتكم لدور المغرب في ظل هذه التحولات في القارة؟

كل المؤشرات توحي في ظل التحولات التي تعرفها القارة الافريقية، وبالنظر إلى البناء المسبق الرصين المرسي على تعاون اقتصادي و ديني و سياسي متين في أبعاده الأمنية والعسكرية والاستراتيجية، بأن المغرب أصبح رقما أساسيا في المعادلة الإفريقية، تقوت مركزيته بفعل المشاريع البين إفريقية الكبرى والمبادرات القارية النوعية على غرار الربط الغازي بين المغرب ونيجيريا والمبادرة الاطلسية واللبنات التي تم تطويرها لمساعده البلدان الإفريقية في مجالات حيوية تحقيقا لسيادتها الغذائية والدوائية، وللأمن الإقليمي في جوانبه العسكرية والروحية.و كل هذه الأوراش والمبادرات تؤهل المغرب، ليلعب أدوارا مستقبلية طلائعية في القارة الإفريقية، كم سيضفي على شراكاته شرعية قارية كبلد له إرادة حقيقية ورؤية واضحة واستراتيجيات محكمة ومبدعة ومنفتحة على المستقبل. فالعديد من الدول الإفريقية تؤمن بهذه الآفاق وبمكانه المغرب و أهمية دوره في المساهمة الإرادية والتضامنية البناءة في تحقيق السلم والأمن والاستقرار بإفريقيا ومن ثمة في دعم التنمية البشرية المستدامة لكافة شعوب القارة.

ماهو الدور الذي ستلعبه الأقاليم الجنوبية للمملكة ضمن هذا الأفق؟

ما من شك في أن الأقاليم الجنوبية للمملكة ستلعب دورا مركزيا كفضاء كبير للتنمية، مفتوح على إفريقيا والعالم منذ1975،سنة المسيرة الخضراء،سيتقوى دورها القاري والدولي بعد القرار التاريخي لمجلس الأمن ليوم 31 اكتوبر 2025 والقاضي بإضفاء الشرعية الدولية الأممية على مشروع الحكم الذاتي في إطار السيادة المغربية.

ويتجلى هذا الدور المستقبلي المركزي بفعل النموذج التنموي الخاص بالأقاليم الجنوبية للمملكة الذي شهد في 7 نونبر 2015 إعطاء الانطلاقة الفعلية للأوراش المهيكلة الكبرى بمدينة العيون تحت الرئاسة الفعلية لجلالة الملك، ثم في شهر فبراير 2016 بمدينة الداخلة.

فهذا النموذج موضوع 38 اتفاقية شراكة تم إبرامها بين مجالس الجهات الثلاثة والقطاعات الوزارية المعنية خصص لها غلاف مالي يفوق 88 مليار درهم لتمويل زهاء 685 مشروعا من ضمنها 255 في جهة العيون الساقية الحمراء و147 بجهةالداخلة وادي الذهب و203 بجهة كلميم واد نون.

فكل التقديرات توحي بان نسبة انجاز هذه المشاريع تفوق حسب الجهات والقطاعات ما بين 70 الى 90% وبعضها قد تم انجازه بالتمام.فهذه المشاريع تهم أوراشا ذات طابع وطني أو قاري أو دولي، تشمل تشييد الموانئ والطرق السيارة والطرق الرئيسية والثانوية والثلاثية والمطارات والتجهيزات المائية والطاقية ومحطات تحلية مياه البحر والصيد البحري والفلاحة والسياحة والمعادن، فضلا عن التجهيزات الصحية والتربوية وتلك المتعلقة بالمحافظة على البيئة والإعداد الرقمي للتراب بالجهات الثلاثة، وكذا قطاعي الثقافة والإعلام.

ومن بين هذه الأوراش فان الورش الكبير المتعلق بالربط القاري للغاز بين المغرب ونيجيريا وتشييد ميناء الداخلة الاطلسي وورش المبادرة الإفريقية الأطلسية التي أطلقها جلالة الملك في نونبر 2023 والتي تهم 23 دولة إفريقية،ستؤهل كلها الأقاليم الجنوبية للمملكة للعب أدوار مركزية حقيقية سيمتد تأثيرها إلى القارة الإفريقية برمتها وكذا أوروبا والأمريكيتين وآسيا عبر العالم العربي، عندها سيصبح الحديث عن "طريق الداخلة" على غرار الحديث عن "طريق الحرير" أو "طريق مركز دبي".

انطلاقا من كل هذه الاعتبارات يمكننا فهم مركزية الأقاليم الجنوبية للمملكة في بناء مغرب جديد داخل قارة إفريقية جديدة تهيئ لاحتلال مكانة لائقة بعراقة حضارتها وبدورها المستقبلي كقوة اقتصادية صاعدة ستؤثر لا محالة في كل التوازنات الكبرى للعالم الجديد.

*إدريس الكراوي أستاذ في الاقتصاد ورئيس الجامعة المفتوحة للداخلة ومنتدى الجمعيات الإفريقية للذكاء الاقتصادي.