في صبيحة يوم الأربعاء 9 يوليوز 2025، ترجل التهامي المعروف بـ"مول الكلة"، أحد آخر حراس الذاكرة الشفوية والتعبيرات الفولكلورية المرتبطة بعالم "التبوريدة"، عن صهوة الحياة، تاركًا وراءه فراغًا لا يعوض في مواسم الشاوية، أولاد احريز، وموسم مولاي عبد الله أمغار، حيث كان اسمه رديفًا لطقوس الاحتفال، ومقياسًا لشحنة البارود الأصيلة.
التهامي لم يكن فارسًا عاديا ولا متفرجًا عابرًا. بل كان ذا مكانة اعتبارية بين الفرسان وعشاق فنون الفروسية التقليدية، حيث اشتهر بعادة فريدة اختزلت حبه العميق لهذا التراث: تكريمه للطلقات المتقنة بكسر جرة ماء طينية مملوءة حتى الحافة، في طقس مزاجي رمزي زاوج فيه بين القوة والدقة والاحتفاء بالفرسان الذين "كرّمو البارود".
ورغم تقدمه في السن ظل هذا الشيخ مواظبا على حضور المواسم، محتفلا ب "الباردية" مهرولا في جنبات "لمحرك"، وأحيانا وسطه معبرا عن فرحه الطفولي بلوحات الفوارس المتقنة التي يؤدونها بكل شغف، ويتلقاها "با التهامي" بزهو غير متناه.
ولد "با التهامي" في إحدى قرى أولاد احريز، ونشأ وسط الخيول وعبق البارود، وشهد منذ صغره صولات الفرسان في الساحات الكبرى للمواسم الصيفية، ليتحول لاحقًا إلى واحد من معالمها المتجولة.
لم يكن فارسًا، وإنما كان ذاكرة متحركة للتبوريدة، خبيرًا في "التنقّيط" وأداء "الهدة"، وصديقًا لجميع السربات، يُحترم ويُستشار في الخفاء والعلن، ويعطى فيجزل في عطائه كلما أثنى على من أدخلوا الفرحة في نفوس جماهير "التبوريدة" بمواسم الصيف، التي تأتي تتويجا للمواسم الفلاحية.
ظل لعقود يرتدي لباسا بسيطا، عبارة عن وزرة بدلة تفوق حجم جسده، وسروال إن كبر مقاسه على خاصرته شده بحبل.. يحمل "ݣلة" (جرة الماء الطينية)، يملؤها بعناية، ويضع عشرات من مثيلاتها جانبا، في انتظار دورها.. ويقف مترقبًا لحظة الطلقة الجماعية التي تعلن الانسجام التام بين الفارس، الفرس، والبارود.
لم يكن احتفاء "با التهامي" دائما كسرا للجرار، بل أحيانا يكون احتفاله بصب ماء "الݣلة" على جسده،وكأنما كان يسعى لقول إن اللوحة الفنية الناجحة تكون إطفاء للهيب الجسد التواق إلى الفرجة
فإذا جاءت الطلقة متقنة، هرول لأمتار وهشّم الجرة على الأرض أمام أنظار الجميع، في طقس احتفالي رمزي تحوّل إلى إحدى علامات جودة طلقة "السربة" وتناسق عمل أفرادها.
برحيله، تفقد التبوريدة أحد "العينين" الخبيرتين اللتين طالما وثقتا بمقاييس غير مكتوبة لأداءات الفرسان، وكرّمت البارود حين يُطلق بشرف.
وسيشعر رواد المواسم هذا الصيف بغيابه في ساحات مولاي عبد الله، وأبي الجعد، وسطات، وبرشيد.. حيث ستبقى جرات الماء دون كسر، في انتظار من يجرؤ على إعادة طقس "با التهامي".
رحل الرجل، وبقيت "الكلة" كرمز لطقس شعبي لم يدوّن قط، لكنه عاش في قلوب الفرسان، الذين سيتذكرونه كلما دوّت طلقة متقنة. فالتهامي، مول الكلة، لم يكن مجرد عاشق للمواسم، بل كان جزءًا من طقوسها، وراويًا فريدًا من رواة البارود.
googletag.cmd.push(function() { googletag.display('div-gpt-ad-1667386526530-0'); });