من عمق جبال الأطلس الصغير، وتحديدا في منطقة تافراوت، ينبعث صوت "أحواش" بإيقاعاته الجماعية الساحرة وأناشيده التي تمزج بين الشعر الأمازيغي والغناء الشعبي، لكن ما يلفت الانتباه أكثر هو حضور نسائي متميز، مختلف ومحمّل بالدلالات الرمزية والاجتماعية: نساء يرقصن وهن مغطيات بوشاح جماعي يخفي وجوههن عن أعين الجمهور.
خلال السهرة الأولى من مهرجان الفنون الشعبية الذي تحتضنه مراكش في دورته 54، كان جمهور قصر البديع مع عرض فرقة «أحواش تافراوت»، التي توحي أزياؤها لأول وهلة بنوع من الغرابة عندما تظهر على الركح نساء الفرقة وهن مقنعات بشكل جماعي، يتحرك بشكل آلي يمينا ويسارا..
ويعتبر المتتبعون لهذا النمط الفني، أن هذه المجموعة ليست مجرد فرقة فنية تمارس الرقص والغناء الجماعي، بل هي تعبير ثقافي عميق ينسج علاقة بين الجسد والهوية، بين الإيقاع والانتماء. وعندما تصعد النساء إلى خشبة العرض، فإن أول ما يشد الانتباه هو هذا الوشاح الموحد، المصنوع غالبًا من قماش ملون، يمتد فوق رؤوسهن ليربطهن جماعيًا ككيان واحد، كأنهن جسدٌ واحد يتحرك بتناغم ودقة، تحت غطاء يحجب ملامحهن لكنه يحرر أرواحهن.
الرقص خلف القناع.. رمزية وهوية
يرى متتبعو التراث الأمازيغي أن هذه الخصوصية في أداء أحواش تافراوت تعكس فلسفة محلية في التعامل مع دور المرأة في الفضاء العام. فالوشاح ليس فقط حاجزا بصريا، بل هو أيضا شكل من أشكال التعبير عن الاحترام والهيبة والخصوصية، حيث تمنح المرأة مساحة للوجود الفني والمجتمعي دون الحاجة لكشف ملامحها، كما يُضفي على العرض طابعا من الغموض والجمال الجماعي.
ويرى نقاد الفنون التراثية أن «هذه الممارسة تبرز فكرة أن المرأة ليست فردا مستقلا في الرقصة، بل جزء من كيان جماعي متكامل، يتحرك بانسجام مع الآخرين ويذوب في إيقاع الطبل والدُّف والقصيدة المغنّاة».
نساء خلف الستار..
وحسب المصادر ذاتها فإنه «في مجتمع محافظ تقليدي، تمثل هذه الرقصة وسيلة ناجعة لتمكين النساء من الانخراط في الحياة الثقافية دون الاصطدام بحواجز الأعراف»، ذلك أنه «رغم أن حضور المرأة في المجال الفني كان تاريخيا محل تحفظ، إلا أن فرقة أحواش تافراوت استطاعت أن تخلق لنفسها شرعية خاصة، تمزج بين الحفاظ على الخصوصية وممارسة الفن الشعبي بكل فخر».
ويقول أحد الفاعلين الثقافيين المحليين: «الوشاح الذي يغطي رؤوس النساء ليس عائقا، بل هو جسر يربط بين الماضي والحاضر، بين ما نريده وما نخشاه»، معتبرا أنه «إعلان بأن المرأة حاضرة، وإن لم تُرَ، فهي تُسمَع وتُحتفى بها»
أحواش تافراوت..
تظل فرقة أحواش تافراوت متفردة في طقوسها، وأسلوبها، وروحها. فهي لا تسعى لإبهار الجمهور بالاستعراض، بل لإحياء الذاكرة الجماعية، عبر شعر أمازيغي تقليدي، وحركات جسدية مقننة، ووشاح يحوّل الأداء إلى طقس شبه صوفي.
هذا النمط من التعبير الفني، الذي يحمل بصمات المرأة التافراوتية، يعكس قدرة المجتمعات التقليدية على إنتاج فنون تحمل رسائل معقدة: احترام الأعراف، تمكين المرأة، والحفاظ على الهوية الثقافية في زمن يتغير بسرعة.
ففي الوقت الذي تركن فيه بعض الفرق إلى التجديد والانفتاح الكامل، تظل فرقة أحواش تافراوت مخلصة لخصوصيتها، تحرس تراثها من الذوبان، وتحول الوشاح من أداة إخفاء إلى وسيلة إظهار.. تُظهر عمق الارتباط بين الفن والهوية.
ذلك أن نساء تافراوت لا يرقصن فقط، بل يروين قصص الأمهات والجدات، خلف وشاح يشبه صفحة بيضاء، يكتبن فوقها بأجسادهن قصيدة من زمن الأجداد، تحفظ لأحواش روحه وتمنحه استمراريته.
googletag.cmd.push(function() { googletag.display('div-gpt-ad-1667386526530-0'); });