لم يعد خافيا على أحد أن بعض الأفراد داخل وطننا لا يتحركون ضمن فضاء عقدي صرف أو انتماء ديني مشروع، بل يتحولون تدريجيا إلى امتدادات فعلية لمراكز التأثير السياسي والأمني الخارجي، وخاصة تلك المرتبطة بعقائد توسعية تتبنى مشروعا عابرا للحدود، متخفيًّا خلف شعارات دينية. ومع أن التعدد الثقافي والديني من سمات المجتمع المغربي، فإن ما يُثير القلق هو أن يتحول هذا التعدد إلى واجهة لاختراقات ايديولوجية تشكل تهديدات مباشراة لمقومات السيادة الوطنية، خاصة حين يتعلق الأمر بقضية الصحراء المغربية، التي تعتبر محور الإجماع الوطني والثابت الذي لا يقبل التأويل.
ما يجب علينا استحضاره دائما، هو إصرار نظام خارجي على التموقع ضد وحدة المغرب الترابية، رغم أنه لا تربطه بجبهة البوليساريو أية صلات دينية أو تاريخية أو حتى جغرافية، ومع ذلك فإن الوقائع والمعطيات المتراكمة تؤكد تورطه المباشر في دعم هذا الكيان الانفصالي، سواء عبر التدريب أو التسليح أو الوساطة الدبلوماسية، خصوصا من خلال سفارته في الجزائر. وقد سبق للمغرب أن قدم أدلة واضحة وموثقة على ضلوع جهاز عسكري أجنبي في تقديم الدعم اللوجيستي والعسكري لجبهة البوليساريو، بما في ذلك تزويدها بطائرات مسيّرة وأسلحة متطورة، وهي حقائق تعاملت معها الجهة المعنية بالصمت المريب وبالخطاب المزدوج الذي يتحدث عن احترام السيادة ويدعم في الوقت نفسه كل ما يزعزع استقرار الدول المستقلة.
في هذا السياق، لا يمكن لنا التعامل ببراءة مع خطابات بعض العناصر التي تبالغ في تمجيد أنظمة أجنبية ورموزها وتُضفي على شخصياتها هالة من التقديس تلامس حدّ الغلو، رغم أن تلك الرموز كانت من أبرز الداعمين لحركات الانفصال وتمزيق وحدة الدول العربية، وعلى رأسها المغرب. إذ كيف يمكن لمن يزعم انتماءه للمشروع الوطني الديمقراطي أن يضع ولاءه لرموز خارجية فوق مصلحة وطنه؟ وكيف يتسنى الجمع بين الدفاع عن وحدة التراب المغربي والانخراط في تبني عقيدة سياسية تسعى لفرض نموذج شمولي عابر للحدود تحت مسمى "نصرة المستضعفين"؟
googletag.cmd.push(function() { googletag.display('div-gpt-ad-1667386526530-0'); });
الخطورة هنا لا تكمن في وجود اجتهاد ديني فردي أو اعتقاد شخصي، فهذا من صميم الحريات المكفولة، بل في أن تتحول هذه القناعات إلى واجهة لتنظيمات تعمل في الخفاء والعلن على حد السواء، لبث الشكوك في الثوابت الوطنية، والترويج لخطابات تتقاطع موضوعيا مع مصالح دول معادية. حين يتحول الانتماء الديني من شأن خاص إلى بنية تنظيمية ذات امتدادات خارجية وتمويلات مشبوهة، فإن الأمر لم يعد شأنا فكريا، بل قضية تتعلق بالأمن الروحي والسياسي للمملكة المغربية.
وإذا كانت التطورات الدولية الراهنة، وما يشوبها من توتر خطير بين أطراف إقليمية وقوى عالمية، تطرح على الفاعلين السياسيين والوطنيين أسئلة ملحة حول طبيعة الاصطفافات، فإن البوصلة يجب أن تظل دائما هي المصلحة العليا للوطن. فمناهضة السياسات الإمبريالية لا تعني بأي حال من الأحوال، الاصطفاف الأعمى إلى جانب مشاريع دينية رجعية تتلبس لبوس "المقاومة" بينما توظف أدواتها لضرب الاستقلال الوطني وزرع الفتنة في المجتمعات والأوطان.
ومن باب المسؤولية السياسية والأخلاقية، لا بد من التصدي لكل مظاهر التبعية التي تستغل العاطفة الدينية لبناء شبكات تعمل على زعزعة الأمن الفكري داخل المجتمع، ولا يمكن الاستهانة بتأثير الجمعيات الثقافية المشبوهة أو المبادرات الإعلامية المتحيزة التي تروّج لمرجعيات خارجية وتُزرع في جسد الوطن كأدوات لخلخلته.
كما أصبح من الضروري، في ظل هذه التحولات الراهنة، تجفيف منابع هذه الولاءات المبطنة، ومراقبة كل أشكال التمويل التي تصل إلى بعض الجهات تحت غطاء الأنشطة الثقافية أو العمل الاجتماعي، وذلك في إطار احترام القانون والحريات، ولكن أيضاً في نطاق حماية الأمن القومي والروحي من كل ما يمسّ تماسك البلاد ومقوماتها. فالوطن لا يمكن أن يكون ساحة مفتوحة للولاءات المتنازعة، ولا يجوز أن يصبح فضاء لتصفية الحسابات بين قوى دولية على حساب وحدته واستقراره.
لقد آن الأوان لتسمية الأمور بمسمياتها: من يدين بالولاء لرموز تسعى إلى زعزعة وحدة المغرب، لا يمكنه أن يرفع شعار الوطنية. ومن يحتفظ بصورة لرمز خارجي في قلبه، وهو يعلم أنه كان من الداعمين لانفصال الصحراء المغربية، عليه أن يختار بين الانتماء للوطن أو الخضوع لأجندة لا تخفي عداءها لوحدة هذا الوطن. إن الوطنية ليست شعارا يُردد في المناسبات أو. المواسم، بل هي التزام دائم بخدمة مصلحة الشعب المغربي في وحدته، وتقدمه، واستقلال قراره السياسي. ومن يضع العمامة فوق الراية، فقد خان الوطن والملك.
*دة. إيمان الرازي، فاعلة سياسية وأكاديمية مغربية.