حين تُصبح الشعوذة رقمنةً مربحة وانحرافاً اجتماعياً

بقلم: ايمان الرازي* الاثنين 09 يونيو 2025
64989c9f-0181-4eac-9b60-448fc9e7e180
64989c9f-0181-4eac-9b60-448fc9e7e180

لم يكن من الممكن، حتى قبل سنوات قليلة، أن نتخيل إمكانية ممارسة طقوس السحر والشعوذة أمام عدسات الكاميرا وتُعرض على العموم وكأنها مسرح فرجوي مشروع، وأن تتحول مشاهد الطلاسم والذبائح والدخان والألفاظ الغريبة إلى "محتوى" رقمي يستهلكه المغاربة في هواتفهم وهم يحتسون قهوتهم، بل ويشاركونه فيما بينهم كتسلية عابرة. هذا التحول من السر إلى العلن، ومن الحياء إلى الفُرْجَة، لا يمكن أن يُقرأ فقط كمجرد انحراف سلوكي فردي، بل هو مؤشر على تحوّل اجتماعي عميق ينبغي أن يُقْرَأ بعين النقد والتحليل، لا بعين الاندهاش أو التنديد العاطفي.

وإذا كانت الشعوذة والسحر في المجتمعات التقليدية تمارس في الخفاء، وتحت ظلال الليل، وتُطلَب من طرف من يعانون هشاشة وجودية أو نفسية أو اقتصادية، فإن الرقمنة أخرجتها من الجُحْر إلى الضوء، ومن الزبون السري إلى المتابع العلني، وفتحت أمامها مساحات غير مسبوقة لتُبنى حولها علاقة استهلاكية تتجاوز الزبون إلى الجمهور. إنها اليوم "عرض"، و"محتوى"، أو"ترفيه"، وقد تَحوَّل الساحر من هامش الظل إلى مؤثر رقمي يجني المال، ومن شخص يُلعن إلى شخص يُتَابَع ويُسَوَّق له، وهو ما يمثل في جوهره انقلاباً قِيَميّاً خطيراً على كل ما راكمه المجتمع من معايير عقلانية وحداثية.

من زاوية التحليل السوسيولوجي، لا يمكن فهم هذه الظاهرة دون ربطها بالسياق الاجتماعي العام الذي يُنتجها ويغذيها: سياق يتميز بتراجع المدرسة، وضمور الفكر النقدي، وتغوّل الفردانية، وانهيار المرجعيات التوجيهية الكبرى، سواء الدينية أو الثقافية أو السياسية. ففي ظل هذا الفراغ، قد يبحث الأفراد عن أجوبة سريعة، حلول سحرية، تفسيرات سهلة للمعضلات الوجودية والمشاكل اليومية. وبما أن الدولة نفسها، في خطاباتها وسياساتها، كثيراً ما تُبقي على نوع من الضبابية والخرافة، فإن المجتمع لا يفهم أن السحر رجعية، بل يراه امتداداً لمسار رمزي طالما تم التسامح معه، بل وتغذيته ضمنيا.

إن العودة إلى الشعوذة تمثل تعبيرا عن فقدان الأمل في الحلول الواقعية والعقلانية، كما تعكس انهيار الثقة في المؤسسات: حين لا يثق المواطن في القضاء، ولا في الطب، ولا في التكوين، قد يلجأ إلى "الراقي" و"الفقيه" و"الساحر"، لأنه على الأقل يمنحه وهماً جاهزاً، ويُقنِعُه بأنه ضحيةٌ لا مسؤول، مستهدف لا مقصر. نعم إنها آلية دفاعية نفسية ضد العجز، لكنها تتحول، حين تُشَارَك وتُبث على المباشر، إلى ثقافة تدميرية تستبطنها الأجيال الصاعدة كجزء من "الهوية" المغربية الرقمية الجديدة.

هل هذا هو النموذج الذي نريد؟ بالتأكيد لا. فالمشكل لا يكمن فقط في من يمارس هذه الطقوس، بل يتجاوز ذلك إلى من يُشَاهِدها، ويتفاعل معها، ويُسوِّقها، وهو ما يعكس بنية مجتمعية تقبل التخلف وتُعِيدُ إنتاجه. إنه ليس فقط انحرافاً عن العقل، بل هو إضعاف للمناعة الثقافية، وتفكيك للبنية القيمية التي يفترض أن تكون قد تجاوزت هذا الإرث الرمزي السحيق، خاصة في سياق يفترض أنه يشهد ثورة تكنولوجية ومجتمعية. والنتيجة أن الرقمنة التي كنا نعتقد أنها بوابة للحداثة أصبحت مجرد قناة جديدة للبدائية، حاملة معها نفس الرموز القديمة ولكن بلغة جديدة وشكل أكثر جذباً.

هنا تُطرح مسؤولية الدولة، هل يجب أن تتدخل؟ نعم. ليس من باب الحجر أو المنع الفج، ولكن من باب حماية الفضاء العمومي من التلوث الرمزي، وتطبيق القانون في ما يتعلق بالتغرير بالناس، والنصب باسم الدين أو القوة الغيبية، خاصة أن هذه الممارسات لا تخلو من استغلال اقتصادي واضح، سواء من خلال جني الأموال من المشاهدات أو من الزبائن. ليس من حق الدولة أن تظل محايدة أمام هذه الكارثة الثقافية، لأن الحياد في مثل هذه الحالات هو تواطؤ ناعم، وترك المجتمع لقوى الشعوذة هو تهديد مباشر لأية إمكانية لتحصينه في وجه التطرف الديني أو الانغلاق الثقافي أو العنف الرمزي.

يبقى السؤال الأخطر: ماذا عن الناشئة؟ من حق الأطفال والمراهقين أن يُربَّوا في بيئة تُعلي من شأن العقل، وتدفع إلى التفكير والنقد، لا إلى الاستسلام للخرافة. حين يرى الطفل المغربي أن الساحر أصبح "يوتيوبر"، وأن "التوكال" أصبح وصفة رقمية، وأن الذبح باسم الجن يُضحِك المتابعين، فإنه يُدجَّن منذ البداية على قبول اللامعقول، وعلى التسليم بأن الواقع لا يُفهم إلا بالخرافة. وهذا أخطر بكثير من السحر نفسه: إنه تقتيل ممنهج للمستقبل، وإفقار للعقل الجمعي، وتجريف لكل إمكانيات التحرر الفردي والجماعي.

في النهاية، لا يتعلق الأمر بسلوك معزول، بل بنزوع جماعي نحو الرداءة، وبمنظومة قيمية تنهار بصمت تحت وطأة الاندماج بين الجهل والربح. وحين تصبح الشعوذة استثماراً رقمياً، نكون قد دخلنا فعلاً في مرحلة جديدة من "الانحطاط المؤسَّس"، حيث لا يكفي الغضب ولا الشجب، بل يحتاج الأمر إلى فعل نقدي دائم، وإلى مشروع مجتمعي يواجه هذا الطاعون الرمزي بكل ما يملكه من أدوات فكرية ومؤسساتية. فإما أن نحسم مع الخرافة، أو نستعد للعيش في مجتمع بلا عقل، بلا أفق، وبلا مناعة وأن نصبح ألوكة بين ألسن الحوار المتربص بنا من كل ناحية .