في التاسع والعشرين من ماي كل عام، نستعيد في صمت يليق بعظمة الراحل، ذكرى فقدان رجل من طينة الكبار، هرم وطني شامخ اسمه عبد الرحمان اليوسفي. خمس سنوات مضت على رحيله، وما زال صدى مواقفه، وأثر خطواته، يملأ أروقة الذاكرة الوطنية، ويحضر بقوة في لحظات التأمل في المسار الديمقراطي المغربي، وفي أحلك لحظات حاجة الوطن إلى رجال دولة حقيقيين.
ولد عبد الرحمان اليوسفي في الثامن من مارس 1924 بمدينة طنجة، المدينة التي كانت ولا تزال ملتقى الثقافات ومسرحا للانفتاح على العالم. انخرط مبكرًا في النضال الوطني ضد الاستعمار الفرنسي، وتدرج في صفوف الحركة الوطنية ضمن حزب الاستقلال، قبل أن يسهم سنة 1959 في تأسيس حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، الذي شكل امتدادًا يساريًّا للنضال الديمقراطي والاجتماعي في المغرب. ومنذ ذلك الحين، ظلّ اسمه قرينًا بالقيم الكبرى: الحرية، الكرامة، العدالة، والديمقراطية.
لم يكن عبد الرحمان اليوسفي مجرد سياسي يمارس العمل الحزبي من داخل المؤسسات، بل كان مناضلًا صلبًا، دفع ثمن مواقفه باهظًا: النفي، الاعتقال، والمضايقة، دون أن يُثنيه ذلك عن مواصلة السير في طريق الشوك. بعد نكسة سنوات الرصاص، التي طالت أصدقاءه ورفاقه وهددت الحياة السياسية في المغرب، ظلّ وفيًّا لقناعته بأن النضال الديمقراطي لا يكون إلا من داخل الشعب ومن أجل الشعب.
googletag.cmd.push(function() { googletag.display('div-gpt-ad-1667386526530-0'); });
تميّز اليوسفي في مساره بخصال نادرة تجمع بين التواضع الشخصي والصلابة السياسية. رجل القانون الذي مارس المحاماة بباريس ودافع عن المعتقلين السياسيين والمناضلين في محاكمات شهيرة، لم يتخلّ يومًا عن أخلاقيات النضال ولا عن مبدئية الموقف. حين اختطف المهدي بنبركة، كان من أوائل الذين واجهوا بشجاعة مسؤولية الجريمة، وظل يطالب بالحقيقة والإنصاف حتى آخر أيامه.
وفي 1980، إثر سنوات من الغربة، عاد إلى المغرب بعد دعوة رسمية، ليبدأ مرحلة جديدة من النضال المؤسساتي. انتخب كاتبًا أول للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية في مؤتمر 1992 خلفًا لعبد الرحيم بوعبيد، وقاد الحزب في لحظات مفصلية، من بينها سنوات التناوب السياسي التي توجت بتعيينه وزيرًا أولًا سنة 1998 من قبل الملك الحسن الثاني، فيما سُمي وقتها بـ"التناوب التوافقي".
ذلك الحدث كان نقطة تحول بارزة في تاريخ المغرب، إذ قبل اليوسفي تحمل مسؤولية قيادة حكومة في ظل نظام لم يكن يملك فيه كل الصلاحيات، لكنه قرر أن يدخل التجربة بروح إصلاحية، هدفها التأسيس لمرحلة انتقالية هادئة، تسهم في بناء الثقة بين الدولة والمجتمع، وتعزز المسار الديمقراطي. وقد نجح، رغم العراقيل البنيوية، في إرساء تقاليد جديدة في الحكامة، وتعزيز حرية الصحافة، وفتح نقاشات جدية حول الانتقال الديمقراطي، والعدالة الاجتماعية، وحقوق الإنسان.
من أبرز إنجازاته في تلك المرحلة إعداد ما سمي بـ"الخطة الوطنية لإدماج المرأة في التنمية"، وإطلاق أولى الخطوات العملية في مسار الإنصاف والمصالحة، ناهيك عن إعادة التوازن للاقتصاد الوطني في ظروف مالية صعبة، وترسيخ منطق دولة المؤسسات. ولم يكن خروجه من رئاسة الحكومة في 2002 إلا حلقة جديدة من حلقات نُبل الممارسة السياسية؛ إذ لم يساوم، ولم يتشبث بمنصب، بل غادر بهدوء الكبار، تاركًا خلفه دروسًا في الأخلاق السياسية والانضباط المؤسسي.
حتى بعد اعتزاله السياسة نهائيًا، ظلّ اليوسفي رمزًا تُقصد إليه الأنظار عند اشتداد الأزمات، ومرجعًا أخلاقيًا حين تنفلت البوصلة من النخبة السياسية. كان حضوره في جنازة الملك الراحل الحسن الثاني، ثم مرافقته لجلالة الملك محمد السادس في زيارات رسمية، إشارات رمزية قوية على ما راكمه من رصيد وطني نادر. وكانت الالتفاتة الملكية بزيارته في المستشفى بالدار البيضاء سنة 2016 بمثابة تتويج لمساره الاستثنائي.
لم يكن اليوسفي زعيمًا سياسيًا فحسب، بل كان أيضًا مثقفًا متنورًا، قارئًا نهمًا للفكر السياسي والحقوقي، كاتبًا دقيق العبارة، بليغ الحجة، حذرًا في الحديث، لا يفرّط في الكلام إلا عند الضرورة. وكان ممن يؤمنون أن الديمقراطية ليست وصفة جاهزة، بل مسار طويل يتطلب نفسًا استراتيجيًا، وتربية سياسية، وشجاعة أدبية.
في ذكراه الخامسة، لا نرثي عبد الرحمان اليوسفي، بل نستحضر دروسه ومواقفه ووصاياه، في زمن باتت فيه السياسة في حاجة إلى رجال من طينته: رجال المبدأ، لا المناصب؛ رجال الوطن، لا الامتيازات. لقد أثبت أن السياسة ليست فن الممكن فحسب، بل فن الأخلاق، وفن التضحية، وفن الإصغاء للناس، وخدمتهم بلا ضجيج.
إن عبد الرحمان اليوسفي لم يمت، لأنه ترك فينا ما لا يموت: ترك مدرسة سياسية تُعلّمنا كيف نمارس الاختلاف بدون عداوة، والمعارضة بدون كراهية، والسلطة بدون استبداد. وإن التاريخ، مهما طال الزمن، سيظل يضع هذا الاسم الرفيع في الصفوف الأولى من شرفاء هذا الوطن، كقامة مغربية أصيلة لا تنحني، ورجل دولة قلّ نظيره، ومثال نادر للسياسي النزيه، والمثقف العضوي، والمناضل الوفي.
رحم الله عبد الرحمان اليوسفي، وأسكنه فسيح جناته، وجعل ذكراه نبراسًا يُضيء دروبنا في أزمنة الالتباس.
-*أستاذة جامعية وباحثة أكاديمية