الشوبي.. العبور الصارخ‎! ‎

بقلم: المختار لغزيوي الثلاثاء 06 مايو 2025
b0c9a127-8e1e-45c2-ab44-29ad026f7927
b0c9a127-8e1e-45c2-ab44-29ad026f7927

حتى آخر لحظات عمره، بقي يكتب غاضبا في الفيسبوك تدويناته عما لا يحب، أو يكتب مبتهجا ‏انطباعاته عن أشياء راقته وأعجبته فقرر مشاركة الجميع فيها‎. ‎

لم يكن قادرا على الصمت المتواطئ، وكان يحب بعنف، مثلما كان «يكره» بعنف، مع الشك في ‏قدرته حقا على الكراهية، لكن الجميل فيه هو أنه كان يقول كل ما يجول في خاطره‎. ‎

لذلك صنع له على هذه الضفة محبين صادقين، وصنع له في الضفة الأخرى كارهين حاقدين، وكل هذا ‏لم يكن يهمه، لأنه كان فنانا مثقفا وذا رأي. وهذه الخصلة تجب ما قبلها وما بعدها، بل وتجب كل ‏شيء، لأنها أهم ما في الفنان‎. ‎

وعندما نرى بعض من أصبحوا يقولون عن أنفسهم اليوم إنهم «فنانون وفنانات»، نترحم كثيرا على ‏سي محمد الشوبي، ونحزن أننا فقدناه باكرا، ونحزن أكثر أن بعضنا دخل ضده ــ بغباء شديد ــ معارك، ‏ولا أبلد، عن رأي قاله، أو عن كلمة ندت عنه، أو عن فكرة اقتنع أنها صائبة، وتستحق الدفاع العنيد ‏والشديد عنها‎. ‎

رحل سي محمد بثقافته، وبشهادته من معهد المسرح، وبكتاباته باللغة الفرنسية، وبمشاهداته المتعددة، ‏وتركنا على الركح، ركح الحياة، وحيدين مع شخوص غريبة، فانتازية، موغلة في العبث الذي لم ‏يدرسه برتولد بريخت ولم يلتق به أبدا، يتعرون علينا عريا غير فني، يظهرون لنا خلفياتهم الكئيبة ‏المنتفخة قسرا، وبشكل غير طبيعي بمادة «البونج» التي يمزقونها عندما تصبح ميكروفونات تائهة، ‏وغير عالمة، تمتد إليهم دون وجه حق‎. ‎

تركنا سي محمد في كواليس مسرح هذه التمثيلية الهزلية، المسماة الحياة، رفقة شركات إنتاج أنست ‏الجشع معناه الحقيقي، وصار الفنان المسكين (ونقصد الفنان الحقيقي طبعا) مجرد كركوز صغير، ‏تكتب اسمه على غلاف العمل قبل الدخول لملاقاة أعضاء لجنة طلبات العروض، ثم تمر عليه ‏بالممحاة، وتقول دون أدنى اعتذار «نسيت»، أو تدعي كذبا أنه «فنان فيه الصداع وغادي يجبد لينا ‏المشاكل مع إدارة التلفزيون‎». ‎

هرب سي محمد بحلده، وساعده المرض اللعين على الهروب، من المشاركة في هذه الكاميرا الخفية ‏الجماعية، التي يلعب كل واحد منا فيها دورا، والتي نتقاضى مقابلها «شي ريالات» قليلة، لكي ندعي ‏بصفاقة وبلادة أننا فعلا لم نكن نعرف أنها كاميرا خفية، وأننا فعلا «مصدومين‎». ‎

الحقيقة ألا أحد منا مصدوم، والكل يعرف كل شيء، والممثل الأفضل فينا هو فقط من يعطي الإحساس ‏أنه لا يمثل، أما البقية فمفضوحون‎. ‎

عندما نفقد فنانين من طينة سي محمد الشوبي، أمضوا العمر القصير كله مصارعين يوميا من أجل الحق ‏في الوجود، والحق في الفن، والحق في الحياة، علينا أن نشعر بوخز شديد في أي عضو لا زال حيا ‏فينا، ولا زال قادرا على النبض والشعور‎. ‎

علينا أن نتأمل المشهد، بعد نزول الستارة، وبعد انتهاء التصفيق، وبعد خروج الجمهور من القاعة، إن ‏كان الأمر يستحق فعلا كل هذا العناء، وكل هذا التعب، وكل هذا الارتجال المعيب لحوار غير مكتوب ‏بعناية مع شخصيات خطوطها وخيوطها التفصيلية غير واضحة، ومرتكب السيناريو كان ثملا أثناء ‏الإنجاز، فتسرع في تسليم المسودة إلى المنتج دون قراءة نهائية، وطبعا شرع المخرج في العمل دون ‏توقف لأن شهر رمضان اقترب، ويجب أن تبدأ الحلقات الثلاثون في قصف المشاهدين بإشهار للطماطم ‏والزيت و«الفوط الصحية» لا ينتهي‎...‎

علينا أن نتأمل، وعلينا أن نعترف أن النهاية متشابهة، في كل هذه الأعمال، سواء كان العبور هادئا لا ‏يصدر صوتا، أو كان عبورا ضاجا بالصراخ والحياة والغضب وقول كل ما في الداخل مثل عبور ‏السي محمد، إذ ينتهي دائما العمل بموت البطل، وبقاء من كانوا يتفرجون عليه حائرين يتساءلون: هل ‏نقول عنه كلاما طيبا عنه الآن، لأنه رحل، في انتظار أن يقول عنا بقية الجمهور كلاما طيبا نحن أيضا ‏بعد الرحيل؟‎ ‎

رحم الله مثقفا مغربيا، صرخ بحبه للحياة حد الموت، كان يسمى... محمد الشوبي‎.‎