لماذا تنجح قطاعات وتفشل أخرى: الفساد والمحسوبية أصل الداء

بقلم: حنان رحاب الأربعاء 22 يناير 2025
رحاب
رحاب

إن المتابع لما تنشره المنابر الإخبارية، سواء المحاية أو الدولية، عن بلدنا، سيلاحظ دون أدنى شك، ذلك التباين في تقويم الوضع السياسي والاجتماعي والاقتصادي، وأحيانا في المنبر الإعلامي نفسه، بحيث من جهة نجد إشادة بكثير من النجاحات المغربية في المسارات الدبلوماسية والأمنية، وكذا في تشييد بنية تحتية معتبرة، رغم السياق الاقتصادي الصعب الذي يمر منه العالم، ومن جهة أخرى نجد تقييمات سلبية لبعض القطاعات، وبعضها حيوي للتنمية والتقدم، من مثل ما تعيشه أوضاع التعليم والبحث العلمي والتشغيل والصحة العمومية والإعلام.

والأمر نفسه، نجده في حديث المواطنين في منتدياتهم العامة والافتراضية، فمن جهة تجد لديهم اعتزازا بدولتهم وبوطنهم، حين حديثهم عن الإنجازات الدبلوماسية والرياضية، وخاصة في كرة القدم، اللعبة الأكثر شعبية في العالم، وحين تناولهم لوضع الاستقرار والأمن اللذين يعيشونه، مقارنة بحال الفوضى والنزاعات المسلحة التي تسود المحيط الإقليمي عربيا وإفريقيا، كما تجد عندهم تنويها بالتطور الذي تعرفه بلادنا على مستوى البنيات التحتية: الموانئ، الطرق السيارة، القطار فائق السرعة...

لكن هؤلاء المواطنين أنفسهم يبدون امتعاضهم من تدهور التعليم العمومي، ومن سلبية الإعلام العمومي الذي لا يعكس تطلعاتهم، ومن استمرار مظاهر الرشوة والمحسوبية والزبونية في بعض القطاعات والإدارات، مما يضرب مبادئ الإنصاف وتكافؤ الفرص. وبالنتيجة، فإنه ثمة اختلافات في إيقاع الاشتغال داخل المؤسسات والقطاعات والوزارات، وهو أمر غير مرغوب في بلد يطمح لرفع وتيرة تنميته وتقدمه، قياسا إلى التحديات المطروحة عليه آنيا ومستقبلا. وفضلا عن ذلك فإن طموحات المواطنين أصبح سقفها مرتفعا، بالنظر إلى النجاحات المحققة في قطاعات سيادية.

ثمة رغبة ملموسة في الارتقاء ببلدنا إلى الوضع الذي يجعل مقارنته بالدول المتقدمة ممكنة، فلم يعد المواطنون يقنعون بخطاب: إننا أفضل حالا من دول الجوار.

يعتقد البعض خطأ، ان مرد هذه الإيقاعات المختلفة هو غياب مشروع مجتمعي واقتصادي وتنموي. والحال أن قدرة الدولة المغربية على العبور بالمغرب بسلام من أزمات عالمية متتالية، هو دليل على وجود مشروع، وعلى وجود مرجعية ناظمة، وعلى أن الدولة المغربية لا تعوزها الكفاءات والأطر لتنزيل مشاريعها المهيكلة.

ويكفي تأمل كيف تكيفت بلادنا مع الأزمة العالمية لسنة 2008، والتي عصفت باقتصاديات الدول التي تربطها ببلادنا شراكات اقتصادية وتجارية ومالية واستثمارية، وكيف تعاملت مع سياق ما سمي الربيع العربي، والذي أعاد رسم خريطة المنطقة وفق مواضعات عنيفة يؤطرها أفق الفوضى الخلاقة، وكيف استطاعت الدولة المغربية احتياجات المواطنين أثناء جائحة كوفيد 19، بل الأكثر من ذلك كيف حمت الاقتصاد المغربي من الانهيار، ثم كيف شرعت في بناء ممكنات الدولة الاجتماعية المأمولة، وسط سياق صعب، مطبوع بمخلفات أزمة كوفيد 19 مفسها، وتداعيات الحرب الأوكرانية/ الروسية، ثم ما تبعها من سيروة فجائعية في الشرق الأوسط، وهي الوقائع التي تؤثر على حركية الرساميل والاستثمارات، وكل هذا ترافق مع توالي سنوات الجفاف التي أثرت على الناتج الداخلي الخام وعلى حركية الاقتصادات المحلية.

إن تامل النجاحات المغربية وسط كل هذا السياق غير المساعد، يكفي حجة على وجود عقل سياسي  ناظم، يمتلك مشروعا واضحا.

غير أن هذه الإيقاعات غير المتوازنة للاشتغال، يجعل بعض القطاعات عائقا أمام نجاحات أكبر، بل إن بعضها يشكل إرباكا لمؤسسات أو قطاعات أخرى، ويجعلها توقف مشروعات مهمة، لإصلاح اختلال في قطاعات أخرى، تكون لها تداعيات مجتمعية، وكلفة سياسية.

مما يجعل سؤالا ينتصب أمامنا: لماذا تنجح قطاعات وتخفق أخرى؟ ولماذا تكون مردودية مسؤولين أعلى من مردودية آخرين؟

وقبل محاولة الإجابة عن السؤال، يجدر التنويه بأن المواطنين بدورهم أصبحوا قادرين على التمييز بين المسؤول المنتج والمسؤول غير المنتج، إذ إن شرعية الإنجاز أصبحت لها الأولوية في نيل الرضا الملكي والشعبي، ولذا فإن أسماء من مثل عبد اللطيف حموشي أو فوزي لقجع أو ناصر بوريطة أو عبد الوافي لفتيت أو محمد امهيدية أو مصطفى التراب على سبيل المثال لا الحصر، تحظى بالقبول والاعتراف الشعبيين، مما يعني أن ثمة رقابة شعبية خفية قائمة على القياس بمؤشرات الإنجاز.

إن ما يميز قطاعات الخارجية والداخلية والأمن والدفاع الوطني والأوقاف والشؤون الإسلامية فضلا على أنها قطاعات سيادية، هو منظومة الحكامة فيها القائمة على ربط المسؤولية داخل دواليبها بالمحاسبة، وعلى الأليات الصارمة في التعيين في المناصب الحساسة، والتي تجعل نيل المنصب مرتبطا بالكفاءة والنزاهة والتدرج الوظيفي، وفي الجمع بين الصرامة في المراقبة والتتبع والتكوين، وبين الإمكانيات الكبرى للترقي في مقابل الإنتاجية.

قد يعتبر البعض أننا ندافع عن القطاعات التي يكون التعيين فيها بعيدا عن الانتساب الحزبي السياسي، ولككنا يمكن أن نمثل لنجاحات حصلت في قطاعات كان يشرف عليها أعضاء في الأحزاب السياسية أثناء مدة انتدابهم الوزاري، وقد نجحوا بفض الوصفة السابقة، والتي ليست وصفة سحرية، بل هي ما ينبغي القيام به أساسا، ويمكن ان نمثل لذلك بما قام مولاي حفيظ العلمي في قطاع الصناعة، وما قام به فتح الله ولعلو في قطاع المالية، وما قام به سعيد السعدي في قطاع الأسرة والطفولة، وما قام به محمد الكحص في قطاع الثقافة والشباب. وكذلك الإشارات الإيجابية التي يقدمها الوزير الحالي للتعليم العالي.

كما حقق مسؤولون آخرون في مؤسسات وشركات عمومية خارج النسق الحكومي نجاحات ملفتة استفاد منها المغرب حتى على المستوى الدبلوماسي والسياحي والاستثماري، من مثل ما حققه المكتب الشريف للفوسفاط، وما حققته الجامعة الملكية المغربية لكرة القدم.

وهكذا نخلص إلى أنه كلما تقلص هامش الفساد في قطاع ما، وكلما تم وضع المسؤول المناسب في المكان المناسب، وكلما تم تفعيل آليات الرقابة والمحاسبة، كلما كانت النتائج إيجابية، والعكس صحيح.

وللأسف فإن الكثير من القوانين الحالية، التي تضبط التسيير الإداري في الكثير من القطاعات، تسمح بتناسل ظواهر المحسوبية والزبونية، ومن ذلك كيفيات التعيين في مناصب المسؤولية، او التمثيلية في المجالس الإدارية واللجن، أو الانتداب لمهام خارجية، والمشاركة في مؤتمرات دولية، والتي هي مناسبة للتكوين وتبادل الخبرات، وتتحول إلى فرصة للسياحة والشوبينغ.

وعليه، فإنه قد آن الأوان إلى تحييين المنظومات القانونية لكي تقيد سلطة التعيين بمجموعة من الضوابط التي تجعل المنصب لا يناله إلا من يستحقه، بما في ذلك الدواوين الوزارية، والهيآت واللجن الانتدابية والاستشارية والتمثيلية والرقابية، ورؤساء المديريات والأقسام.

إن استمرار مظاهر المحسوبية والزبونية، وأشكال تبادل المنافع، وأحيانا حتى جبر الخواطر الحزبية او العائلية على حساب الكفاءة والنجاعة، يولد إحباطا داخل المجتمع، والأخطر ان الإحباط يجد طريقه إلى الكثير من ذوي الخيرة والكفاءة العلمية والعملية، فينعكس ذلك سلبا على إمكانات عصرنة المرفق العمومي.