من المظاهر المميزة للنظام الملكي بالمغرب، اتسامه بالعديد من الخصائص الحضارية التي تمتح من تراث عريق، يمتزج فيه الديني بالاجتماعي، ويضفي على الملكية فرادتها الخاصة من بين كل الملكيات القائمة في عالم اليوم، بل ويجعل من الطقوس المرافقة لها، مشاهد حضارية متميزة قل نظيرها، تعبر في جزء منها عن المكونات الأصيلة التي ميزت وتميز الشخصية المغربية على مدى قرون غابرة.من المؤكد أن لرمزيات طقوس الحكم ببلادنا، وظائف متعددة، لا أقلها حفظ المكانة السامية للجالس على العرش، وجعل احترامه من واجبات الدين وفروض الشريعة والالتزام بوحدة الجماعة.إلى جانب ذلك، فإن الطقوس التي تجري على ضوئها مراسيم البيعة، وبغض النظر عن بعدها الرمزي الذي يكرس موقع الملك، ليس بصفته رئيس دولة فقط بل وبصفته أميرا للمؤمنين كذلك، هي نتاج التزام تعاقدي مؤسس على الدين، وعرف دستوري يؤسس لشرعية الحكم، إذ ليس خفيا، بأن النظام القائم في المغرب يؤسس شرعيته دائما على الدين (الإسلامي طبعا) قبل أي شيء آخر، فالملك يختتم خطاباته بنصوص دينية ويذبح الأضاحي ويحضر صلات العيدين ويحيي ليلة القدر، وغيره مما يصعب حصره في هذه الورقة، فضلا عن ذلك، فإن نص وثيقة البيعة تصدر ب"الحمد لله الذي نظم بالخلافة شمل الدين والدنيا وجعلها الدرجة العليا"، وبالتالي من الصعب تصور ملكية المغرب بدون بيعة، بكل ما تحمله من ترسانة رمزية، يؤسس عليها الجالس على العرش سمو مكانته ويفرض من خلالها هيبته التي هي أحد المكونات الأساسية لقوة النظام والدولة. هذا، دون أن ننسى البعد الجمالي والحضاري المميز لطقوس هذه البيعة، فطقوس هذه الأخيرة، تجسد قيمة جمالية رائعة ومميزة للمغرب، باعتباره بلدا عريقا، بني مجده على امتداد قرون من التراكمات الحضارية وليس بلدا وليد اللحظة، وهذا ما يفسر مثلا، ارتكاز العديد من التشكيليين المغاربة والأجانب في مادة إبداعهم على تيمة البيعة. فالبيعة على هذا الأساس، وبغض النظر عن وظيفتها الدينية والدستورية، تقدم لوحة تشكيلية ذات إيحاءات تراثية موغلة في التاريخ (بالمفهوم الحضاري طبعا)، بدءا باللباس التقليدي، ثم بنوعية الألوان وختاما بطقوس الركوب على الفرس ورفع المظلة. وعليه، فإن نقاشنا لقضية البيعة -كما سبقت الإشارة- لا ينصب في جوهره، على أساس الحكم ولا حتى على شرعيته المتينة، إذ الحكم بالمغرب يستقي قوته القانونية من صلب الوثيقة الدستورية، أي من القانون الأسمى المؤطر لعلاقة الحاكم بالمحكوم، ومن العقد الديني المقدس بين الراعي والرعية، فملك المغرب وإن كان رئيس دولة عصرية يحكمها بالدستور كما أوضحنا، فهو في الوقت ذاته أمير المؤمنين وحامي حمى الملة والدين.والبيعة بهذا المعنى، تجسيد مادي لهذه العلاقة العمودية، وحتى لو اعتبرناها مجرد عرف دستوري خارج نصوص الدستور ذاته، فالواقع يؤكد أن لا أحد يمكنه تجاوزها، أو يمتلك الجرأة على القول بنفيها، إذ هي تعبير عن المشترك، ورمز لهوية البلاد، ولعل المراسيم التي تجري وفقها بيعة السلطان، تأتي في قمة هذه المكونات التي جرى بشأنها نقاش طويل، تجدد بشكل أقوى في عهد الملك محمد السادس، عندما حاول في بداية حكمه، تكسير العديد من الأنماط البروتوكولية التي لازمت السلطان / الملك المغربي في حله وترحاله.وبالقدر الذي لقيت مبادراته استحسانا من طرف البعض، فإن البعض الآخر، حاول الركوب على دينامية التجديد هذه لرفع سقف المطالب حيال طقس البيعة، بل إلى حد المطالبة بإلغائه، وأعتقد أن من قال بذلك، جانب الصواب كثيرا، بالنظر إلى ما سقناه من مبررات، أضف إليه إنكاره لشيء أساسي، وهي أن العديد من الملكيات الرائدة في الديمقراطية، لم تجد أي مشكل في تعايش حداثتها مع تقاليدها، ولنا في الملكية البريطانية خير مثال على ذلك.أستاذ جامعي