هل تخليت عن يساريتي، وقناعاتي الحداثية، لما أدافع عن تعديل مدونة الأسرة من داخل السقف الديني الذي حددته رسالة الملك أمير المؤمنين ألى رئيس الحكومة؟.
وهل ارتد سلاحي إلى الخلف بينما أرفض أن أكون متحمسا لبعض الإندفاعات التحديثية التي تدقع في اتجاه اختراق مجالات في الشريعة مازال البعض في مجتمعنا يعتبرها خطوطا حمراء؟.
أبدا، ما زلت يساريا وبقناعات حداثية.
لكني تعلمت، في مدرسة اليسار المغربي العقلاني، قواعد التحليل الملموس للواقع الملموس في تحديد ميزان القوى، والربط الناضج بين التكتيك والاستراتيجية، واعتبار التناقض الرئيسي والتناقض الثانوي أدوات تحليل متحركة.
لا نحتاج الى تذكير بأن ميزان القوى المجتمعي يميل إلى المحافظة الدينية، إن المجتمع، ومهما ظهرت عليه من سلوكيات فردية منفتحة ومعاصرة في مختلف مناحي الحياة، إلا أنه يعود إلى الإنغلاق الهوياتي، والتشدد المرجعي التاريخي، كلما تعلق الأمر بقضايا لديها علاقة بالنص الديني.
لقد جربنا ذلك مرارا وتكرارا، ولا حاجة لأن نعود الى بسط الوقائع من جديد، من النسخة الاولى للمدونة الى مختلف التعبيرات الفنية فهمنا الدرس، وخلاصته أن صناع الرأي العام الديني الشعبي، لا يحتاجون لمجهود كبير في تأليب المجتمع على كل دعوة الى قراءة منفتحة للنص الديني، المادة الخام جاهزة أمامهم، يكفيهم ميكروفون وبضعة إحالات على القرآن والأحاديث.
فضلا عن المقدمات المجتمعية الحاسمة لصالح المحافظة الدينية، لا يناسبني كيساري أن أقدم هدايا مجانية تكون طوق نجاة لإسلاميين خرجوا منهكين مهزومين من سنوات "الربيع العربي". لنلاحظ أنه بمجرد ما طرح وزير العدل عبد اللطيف وهبي أفكاره حول الحريات الفردية أمسك بها عبد الاله بنكيران، أمين عام حزب العدالة والتنمية، كما يمسك الرضيع بثدي أمه.
ولما جاءت مناقشات مدونة الأسرة خرج كل المحافظين للتنديد ب "مدونة حداثية" لم توجد أصلا، وأخرج بنكيران كل ما فيه من خبث سياسي، حتى أنه صار يحاسب زملاءه في الطبقة السياسية عن صلاتهم وصيامهم!!!
هل الإسلاميون أكثر غير على الإسلام من أمير المؤمنين حامي الملة والدين؟. أبدا، هم يعرفون فقط بدهاء سياسي شعبوي، أن قضايا الزواج، الطلاق، الجنس، الأسرة، المثلية .. هي وصفتهم السحرية لإعادة استدعاء جمهور المؤمنين لمائدة دينية انفضوا من حولها سياسيا.
يعرف هؤلاء انهم لن يعودوا للواجهة ومؤسساتها بنقاشات معارضة في معدلات النمو ومنجزات التشغيل والتعليم والصحة ... لقد جربهم الناس في المغرب وخارجه، ولم يجنوا معهم غير إخفاقات زادت وضعيتنا صعوبة، ولذلك اختاروا الهروب الى ملعب الدين، والى قلوب غيرة المؤمنين، المتاجرون بكلام الله في سوق البضاعة السياسية، ليست لديهم جفوف لترف خجلا.
فكيف لي والحالة هذه، أن أمارس حداثة انتحارية، وأعتنق يسارية "طوبيسية"، تقدم طوق نجاة لمن لفظتهم الجماهير سياسيا؟ وكيف أعيد من النافذة من ركلهم الشعب عبر أبوابه؟!!!.
بالنسبة لي، اختيارات أمير المؤمنين هي الحد الممكن مرحليا، وهذه قمة العقلانية في مممارسة يسارية تخرج رأسها من الواقع ولا تصنع مجتمعا وهميا في رأسها وتحاول فرضه على واقع عنيد.
وفوق ذلك كله، تخبرني يساريتي، أنه سيكون خطأ تكتيكيا واستراتيجيا، أن أحرج أمير المؤمنين أمام المتربصين به دينيا.