تضليل بسوء نية

يونس دافقير الثلاثاء 05 مارس 2024
No Image


لنترك جانبا ابتزاز ابن كيران للتعددية وحرية التعبير بمسيرات الشارع، ولنعتبر تطاوله على مجال محفوظ لأمير المؤمنين نوعا من الرعونة المعتادة في الرجل، ولنعد إلى تتبع خيوط تضليل مقصود يستهدف جمهور المؤمنين.

بتاريخ 2 أكتوبر 2023 نشر حزب العدالة والتنمية في موقعه الإلكتروني الرسمي النص الكامل لرسالة الملك أمير المؤمنين إلى رئيس الحكومة في موضوع مدونة الأسرة. لم يكن النشر عملا إخباريا عاديا، بل تفردت الرسالة عن العشرات من الأخبار والتعليقات الواردة في الموقع الحزبي بكونها تسعى إلى طمأنة قواعد الحزب، وقاعدته الاجتماعية المحافظة بكون تعديلات مدونة الأسرة ستتم تحت سقف المرجعية الإسلامية.

كما حمل فعل النشر رسالة مباشرة إلى من يعتبرهم الحزب خصومه الإيديولوجيين، مفادها أن مقترحاتهم وتطلعاتهم الحقوقية توجد خارج المساحات التي حددها أمير المؤمنين لرئيس الحكومة ولأعضاء اللجنة المكلفة بتعديل المدونة.

حين صدر بلاغ الديوان الملكي الذي أعلن في شتنبر 2023 عن فتح باب النقاش المجتمعي حول مستقبل الأسرة المغربية، ساد سوء فهم كبير ناتج عن تأويل مضلل لفحوى الرسالة الملكية، باختصار حاولت بعض الأوساط المحافظة تقديم اللحظة المجتمعية على أنها موعد لاستهداف الدين والقيم المغربية الأصيلة.

كان لابد من احتواء هذا الانزلاق، وكجواب على ذلك، تم في نهاية شتنبر نشر النص الكامل لرسالة الملك أمير المؤمنين، بل إن جلالة الملك سيعود إلى مدونة الأسرة في خطاب افتتاح البرلمان شهر أكتوبر 2023، في ذلك الخطاب سترد الأسرة في سياق ثوابت المشروع الحضاري المغربي، الدين الإسلامي، إمارة المؤمنين، المذهب المالكي، والقيم المغربية الأصيلة.

لماذا كل هذا السرد لوقائع وكرونولوجيات معروفة لدى الجميع، أو يفترض، وهنا بيت القصيد، أنها من الأمور المعلومة لا المجهولة؟ لنترك السؤال ينضج قليلا، ولنعد إلى الرسالة الملكية، وفيها نجد :

1- لا يتعلق الأمر بوضع مدونة جديدة للأسرة، ولا باعتماد مرجعيات جديدة أو الخوض في قضايا دينية خلافية كبرى، ذلك أن التعديل سيتم داخل سقف التوازنات الكبرى التي تم اعتمادها سنة 2004.

2 - لم يدخل أمير المؤمنين في تفاصيل التعديلات، بل اكتفى بتحديد طبيعتها، الغاية منها، والتأكيد على أن تأهيل المدونة ينبغي أن يتم في إطار مقاصد الشريعة الإسلامية وخصوصية المجتمع المغربي.

3- في غايات التعديل تركز الرسالة الملكية منذ البداية على "تجاوز بعض العيوب والاختلالات، التي ظهرت عند تطبيقها القضائي"، وعن "مواءمة مقتضياتها مع تطور المجتمع المغربي ومتطلبات التنمية المستدامة"، ثم "تأمين انسجامها مع التقدم الحاصل في تشريعنا الوطني".

4 - من الواضح في تفاصيل الرسالة الملكية أن لحظة التعديل والحوار المجتمعي الذي يؤدي إليه ليست لحظة دينية ولا سياسية أو إيديولوجية، بل هي لحظة تأهيل قضائي وقانوني لا غير.

5- تعود الرسالة عند تعيين قيادة الحوار المجتمعي إلى توضيح نفس الطبيعة والغايات لما تشير إلى أنه "واعتبارا لمركزية الأبعاد القانونية والقضائية لهذا الموضوع، فقد ارتأينا أن نسند قيادة عملية التعديل، بشكل جماعي ومشترك، لكل من وزارة العدل، والمجلس الأعلى للسلطة القضائية، ورئاسة النيابة العامة".

6 - ولمزيد من الوضوح، وإغلاقا لأبواب سوء الفهم، يعيد أمير المؤمنين تكرار جملته الشهيرة "وكما أكدنا أكثر من مرة، فإننا، بصفتنا أمير المؤمنين، لا يمكننا أن نحل ما حرم الله ولا أن نحرم ما أحله جل وعلا".

لنعد الآن إلى حزب العدالة والتنمية، هل يجهل الحزب كل هذه التطمينات والضمانات التي نشرها في موقعه الرسمي أم أنه يتجاهلها؟ من الواضح أن في خطاب قيادة الحزب تجاهل عن سوء نية، وتضليل مع سبق الإصرار والترصد، فهو يتحدث عن أمور لا توجد في جدول أعمال لجنة المدونة ولا في نطاق اختصاصها، وقد نجازف بالقول إنها لا توجد حتى في نيتها.

في الواقع، يريد الحزب، وقد عاد إيديولوجيا إلى ما قبل مشاركته في المؤسسات السياسية والدستورية، أن يضبط عقارب نقاش مدونة الأسرة على توقيت الاحتقان المجتمعي لسنة 2002، وإذا لم يجد أمامه الوزير سعيد السعدي، سيعوضه بإدريس لشكر، أمينة بوعياش، وعبد اللطيف وهبي ونبيل بنعبدالله.

هل سمعتم يوما عن انتهازية مقيتة؟ إنها تلك التي يمارسها البيجيدي هذه الأيام، فالحزب الذي رأى أمينه العام في آلاف القتلى الفلسطينيين في غزة مجرد "انتعاشة للحزب"، هو نفسه سيرى في القتال من أجل تزويج الطفلات على سبيل المثال، مجرد "انتعاشة" أخرى لحزب لم يتبق من تغوله سوى بضع نساء في البرلمان.

الحكاية ببساطة ليست في حماسة غزة ولا حمأة الدين، هذا حزب يمارس السياسة بأسوإ ما فيها، تحويل قضايا وآلام الناس إلى تجارة في سوق البحث عن الزبناء، تماما مثل اليوتوبورز، هم يبحثون عن مداخيل "الطوندونس"، وهو يلهث خلف عائدات "البوز" الديني.