أسأل نفسي، ويفعل الجميع ذلك، منذ ابتدأت حرب إسرائيل وحماس على ناس غزة: من أين يأتي هذا الرجل بكل هذا الصبر الذي يجعله يدفن أفراد عائلته، الواحد بعد الآخر، ثم يسارع، فور انتهاء التشييع الجديد إلى مراسلة قناة "الجزيرة" الموجودة في قطر، من أجل مدها بآخر أخبار القطاع المنكوب العالق بين قتل إسرائيل وقتل حماس؟
لا أجد أي جواب يقترب من الحس الإنساني العادي للحالة المسماة "وائل الدحدوح"، فلا أحد فينا نحن البشر، يستطيع تحمل كوارث مثل هاته، وهي تترى وتتابع وتتوالى عليه.
حتى وزير خارجية أمريكا بلينكن تحدث عن الأمر، ولم يجد الكلمات الكافية لوصف مايتعرض له الدحدوح فقال "إنها كوارث فوق التحمل الإنساني"، واكتفى.
googletag.cmd.push(function() { googletag.display('div-gpt-ad-1667386526530-0'); });
وحقيقة يحار الإنسان إن كان ملزما بالإعجاب بكل هذا الصبر والجلد، أم تراه يضطر للشعور الغامر بالشفقة والحزن والرثاء، أم أن شعور الاستغراب الكبير هو الذي يجب أن يسيطر على المرء، وهو يرى صحافيا يتحول لأداة تسديد عليه، تفقده بين اليومين أو الثلاثة فردا جديدا من عائلته فيما هو ماض يواصل عمله بعد الدفن والسلام.
وحقيقة مرة أخرى، يجب أن تساءل عن هذا الموضوع، إسرائيل التي أدمنت قتل الصحافيين، ويجب أن تساءل أيضا القناة المشغلة لوائل الدحدوح التي تعتبر كل قتل جديد لفرد من أفراد أسرته، مجرد مادة خبرية تصلح لسكب المزيد من الدموع، دون أن تتوقف ماكينة القتل الغبية هاته عن قطف المزيد من الأرواح، ودون أن ترحم هاته القناة هذا الرجل، وتفرض عليه هنيهة ارتياح من أجل عيش حداد سيلازمه ماتبقى من العمر.
ثم هناك سؤال المهنة في كل هذا الذي يجعل بعضنا يعتبر المسكين وائل بطلا كبيرا لأنه يدفن كل سلالته الواحد بعد الآخر أمام أنظار الكاميرات العالمية، ويجعل بعضنا الثاني يطرح السؤال إن كان الصحافي ملزما بالتحول إلى جزء من الحرب يخوضها مع هذا الطرف ضد الآخر، ويتحمل تبعات يتحملها في العادة العسكريون المشاركون في الحرب، لأنها تدخل في إطار مهنتهم التي يمارسونها، أي القتل والقتل المضاد.
ولعلها فعلا أول مرة في تاريخ حروب البشرية الحديثة التي نعيش فيها فصلا فرديا بهاته الدموية، يكاد يغطي على المأساة الجماعية، التي انطلقت يوم السابع من أكتوبر من السنة الماضية، حين إغتالت وأسرت "حماس" مدنيين، وقال لها كل عقلاء الكون إن إسرائيل سترد بالمثل، بل بما هو أسوأ، ولم يرد الحمقى الاستماع، فكان ماكان من دمار وتشريد وتهجير وقتل ورعب وإرهاب وجراح لم تندمل أبدا.
هذه الحالة المسماة "وائل الدحدوح"، دليل إضافي آخر على أننا - جميعا دون استثناء - فقدنا الحاسة الإنسانية التي تميزنا عن الجماد: نرى كل هذا الموت يقصف الآدمي بكل هذا الرعب، ونعتبر الأمر مادة خبرية نكتب عنها كلمات تظل جافة، مهما بالغت في التأثر، ثم نمضي بحثا عن مادة خبرية أخرى تكون أكثر تأثيرا، وأكثر عنفا، وأكثر دموية لكي تنسينا السابق من المواد.
مع هاته الحرب، لم يعد "وائل الدحدوح" مراسل قناة خليجية تبرع في نقل أخبار الموت والدمار فقط.
هو أصبح عنوان تجرد جماعي من الإنسانية، يرى أبا ورب أسرة يدفن أفراد أسرته الواحد بعد الآخر على المباشر، ويكاد يعتبر الأمر عاديا، ويواصل الفرجة المتواطئة التي تقترب من حدود التبلد الكامل في الأحاسيس، الذي يشبه الموت تماما.
مرعب حقا، لكنه الواقع الأليم الذي نحياه ونتفرج عليه، ونواصل "الزابينغ" والتنقل بين القنوات، وكأن شيئا لم يكن...