رحاب تكتب: الإعلام الحزبي في مفترق طريقين !

بقلم: حنان رحاب الخميس 25 مايو 2023
No Image



لا يمكن إلا لجاحد أن ينكر دور الإعلام الحزبي في مراحل مختلفة من تاريخ المغرب الحديث، ولذلك فحين ننتقد مآلاته الحالية، فمن زاوية العرفان، ومن رغبة في استمرار الإعلام الحزبي رافدا من روافد حرية التعبير وتجويد النقاش العمومي ودعم التعددية الحزبية والسياسية والإيديولوجية.

لقد قام هذا الإعلام بأدوار كبرى في بث الشعور الوطني، والترويج للإنسية المغربية زمن الحماية، وكان واحدا من جملة وسائل لتشبيك الفعل الوطني، ولتكوين سياسي ومذهبي لنخبة وطنية ناشئة، سواء كانت قادمة من التعليم التقليدي أو من التعليم العصري.

كما ساهمت في بدايات الاستقلال في التأسيس لإعلام وطني متحرر من التأثيرات الكولونيالية، من خلال الترويج لمشاريع وطنية كبرى، كانت عنوانا لانخراط المغرب في مسلسل التحديث والدمقرطة، ومجابهة كل البنى والأنساق التي كانت تشد المجتمع للوراء.

وأثناء ما عرف بزمن الجمر والرصاص، كان الإعلام الحزبي، خاصة المحسوب على أحزاب الحركة الوطنية، في مقدمة معارك مواجهة التسلط، وخنق حرية التعبير، وكان محوريا في كل النضالات من أجل الديموقراطية وحقوق الإنسان والتعددية.

كما رافق كل مشاريع الانتقال الديموقراطي الذي عرف مدا وجزرا منذ تسعينيات القرن الماضي، إذ كانت صحف "الاتحاد الاشتراكي" و"العلم" و"البيان" و"أنوال" و"لوبينيون" و"ليبيراسيون" وغيرها بمثابة مختبرات حقيقية لاحتضان نقاشات حول الانتقال الديموقراطي، والإصلاح الدستوري، والمساواة بين الجنسين، والعدالة الاجتماعية، بل إن هذه الصحف كانت تصنع رأيا عاما عريضا، لدرجة أن الإعلام الرسمي آنذاك، ورغم هيمنته على الفضاءين السمعي والبصري كان عاجزا عن مجاراة الإعلام الحزبي في تشكيل قناعات الرأي العام.

ورغم أن الإعلام الحزبي الأكثر انتشارا ومصداقية آنذاك كان ذاك المحسوب على أحزاب ما سمي بالكتلة الديموقراطية، وهو ما ترجمته المبيعات وطبيعة الأسماء التي كانت تنشر مقالاتها فيه بغض النظر عن انتمائها أو حيادها الحزبي، فإن بعض الصحف التي كانت محسوبة على ما سمي اليمين، كانت بدورها تجد لها مساحات معقولة من الانتشار، ويمكن التمثيل لذلك بجريدة "الميثاق الوطني" التي كان يصدرها حزب التجمع الوطني للأحرار، والتي استطاعت أن تستقطب حتى بعض الأقلام التي كانت قريبة من اليسار، خصوصا في صفحاتها المتعلقة بالفكر والأدب والتحليل السياسي.

ولقد تراجعت مبيعات هذه الجرائد بداية من أواخر التسعينيات، لأسباب عديدة، ومن أهمها ظهور تجارب إعلامية خاصة (ليكونوميست، الأحداث، الصباح، لوجورنال، تيل كيل، الصحيفة، المساء...)، وبحكم أنها كانت متحررة من القيود الحزبية، فإن هامش الحرية كان فيها أكثر اتساعا، ليس فقط في المواضيع ذات الطبيعة السياسية، بل حتى ذات الطبيعة الثقافية والدينية والاجتماعية، خصوصا أن المرحلة عرفت انفتاحا كبيرا على المستويات الاقتصادية والسياسية والثقافية والاجتماعية.

كانت المرحلة بمثابة طفرة غير متوقعة في الحريات، عموديا وأفقيا.

وهذه التجارب الجديدة اعتمدت على صحافيات وصحافيين انتقلوا إليها من الجرائد الجزبية، وشكل هذا الرحيل كذلك نزيفا من حيث الكفاءات المتمرسة على المهنية والتواصل والخبرة.

ثم جاءت بعدها مرحلة الانعطاف الرقمي، بحيث انتشرت الصحف الإلكترونية، مستفيدة من التكلفة المنخفضة قياسا مع الإعلام الورقي، ومستثمرة للإمكانات التي تتيحها الشبكة العنكبوتية من حيث نشر الخبر إبان حدوثه، دون انتظار "للبوكلاج"، وتزامن كل هذا انتشار للهواتف الذكية على المستوى الوطني، بحيث كان المغرب رائدا في محيطه الإقليمي على مستوى الولوجية للتكنولوجيات الحديثة.

كل هذه التحولات تضرر منها الإعلام الحزبي، الذي تراجعت مقروئيته حتى في صفوف المناضلين الحزبيين، وأرقام المبيعات مؤشر دال على أن استمرار صدور الجرائد الحزبية يعود للدعم العمومي ولقليل من المداخيل الإشهارية ولتمويل حزبي أحيانا لمواجهة العجز، وأنه لا أثر للمبيعات على التوازنات.

هذا دون الحديث عن مزاحمة وسائط التواصل الاجتماعي ومنصات البث الرقمي السمعي البصري ( اليوتيوب،،،)، والتي تضررت منها حتى المواقع الإعلامية الرقمية.

إن كل هذه المتغيرات تطرح سؤال الجدوى من استمرار الأحزاب في التشبث بجرائد لا يكاد يقرأها إلا القلة، ليس فقط لأنها جرائد حزبية، بل كذلك لأن الصحف الورقية أصبحت مكلفة وبعائد ضعيف من حيث المقروئية. مع ملاحظة أن المواقع الحزبية بدورها لا تمثل أي قيمة مضافة للأحزاب من حيث التواصل مع المواطنات والمواطنين.

لقد انتبهت الأحزاب السياسية في أوروبا وأمريكا الشمالية مبكرا لضبابية مستقبل الجرائد الحزبية، ولذلك فكت هذا الارتباط باكرا، حتى قبل الثورة الرقمية، لأن إكراهات السوق الإعلامية كانت كافية لها للاقتناع بصعوبة مجاراة الإعلام الخاص، ولذلك كان الأمر معكوسا عندهم بحيث إن الإعلام الخاص هو الذي كان يقترب من الأحزاب السياسية باعتبارها مصادر للخبر، وكان هذا الاقتراب مقترنا بالخطوط التحريرية، فكانت مثلا "إلباييس" الإسبانية و"لوموند" الفرنسية و"الدير شبيغ"ل الألمانية و"الغارديان" البريطانية أقرب لليسار، فيما "إلموندو" و"لوفيغارو""" ودي ليفت و"التايمز" أقرب لليمين، كما "النيويورك تايمز" أقرب للجمهوريين و"الواشنطون بوست" أقرب للديموقراطيين في الولايات المتحدة الأمريكية.

وحدها التيارات الشيوعية، ولأسباب إيديولوجية بقيت مصرة على إصدار صحف حزبية، كما هو حال "لومانيتي" في علاقتها بالحزب الشيوعي الفرنسي.

إن الإعلام الحزبي المغربي مازال مستمرا في إنتاج مواد خبرية وإعلامية لا يستطيع عبرها المنافسة مع باقي المنصات الرقمية والإلكترونية، سواء التابعة للمقاولات الخاصة، أو فضاءات وسائط التواصل الاجتماعي.

ذلك أن كل المستجدات الخبرية تنتشر انتشار النار في الهشيم قبل أن تجد لها موضعا في ركن بجريدة حزبية، فقد انقضى ذلك الزمن الذي كانت الجرائد الحزبية هي صاحبة السبق الصحفي، خصوصا حين كانت تواجه أشكالا متعددة من الرقابة، لم تعد موجودة في الزمن الرقمي. وحتى الأخبار ذات الطبيعة الحزبية سواء كانت بيانات أو أنشطة يمكن ضمان انتشار أوسع لها عبر هذه المنصات الجديدة، يحتاج الأمر فقط إلى امتلاك سياسة تواصلية حزبية غير كلاسيكية.

هل هذا يعني دعوة لإغلاق هذه الصحف؟

طبعا لا، فهذه المؤسسات تشغل مجموعة من الصحافيات والصحافيين والعاملات والعمال في مهن الإعلام والمهن الموازية لها، كما تستفيد من دعم عمومي يؤهلها للاستمرار رغم كل الملاحظات السابقة.

بل القصد هو التفكير في مشروع إعلامي حزبي جديد، يجعل هذه المؤسسات تقدم قيمة مضافة، سواء للإعلام أو حرية التعبير أو تجويد المشهد السياسي وتأطير النقاش العمومي .

ومن هنا يجب طرح سؤال: ما الذي ينقص السوق الإعلامية الوطنية، ويمكن للإعلام الحزبي أن يسد الفراغ فيه؟

أعتقد أن الإعلام الحزبي، بصفته هذه، وبتاريخه، وبإمكاناته الذاتية، وإمكانات الأحزاب التي تقف وراءه عليه أن يتوجه نحو تطوير النقاش العمومي في القضايا الاستراتيجية والآنية، وأن يغني التحليل السياسي الذي نكاد نفتقده، خصوصا وأن دعم الأحزاب السياسية من المال العام يتضمن خانة مرتبطة باستقطاب النخب وتكوينها ودعم إنتاج الدراسات التي لها تماس مع العمل الحزبي والحكومي والشأن العام في مستوياته المختلفة.

ولذلك سيكون من وجهة نظري الخاص التحول نحو نموذج الإصدار المرتبط بالقضايا الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية وتطعيمه بالفصليات بين الفينة والأخرى باصدارات فصلية على أن يكون الحيز الأكبر للتحليل والدراسات وتجويد النقاش العمومي.