كشف محمد بنعليلو رئيس الهيئة الوطنية للنزاهة عن مخطط خماسي لمحاربة الفساد. واعتبر بنعليلو أمس الثلاثاء أن هذه الاستراتيجية هي فصل جديد "من فصول مؤسسة دستورية، واضحة في خياراتها، وقادرة على مواجهة الفساد في صيغته العلنية والخفية، الظاهرة والمستترة، الفردية والمنظمة".
وأكد رئيس هيئة النزاهة أن الفساد، في كل تجلياته، ليس موضوعا قطاعيا، ولا ملفا تقنيا، ولا شأنا إداريا محضا، "إنه معركة وجود، لأنه حين يتسلل إلى دواليب الدولة، ينهك الاقتصاد، ويشوه العدالة، ويُسكت صوت الكفاءة، ويؤثر في مستقبل الشباب، ويزرع الشك في النفوس، ويحول المؤسسات إلى فضاء للعجز والتردد".
يضيف بنعليلو أنه أصبح واضحا اليوم، وبما لا يدع أي مجال للشك أو التأويل، أن مخاطر الفساد في صيغته الحديثة لم تعد في مجرد انحراف فردي أو ممارسة شاذة هنا أو هناك، بل في مخافة تحوله إلى خلل بنيوي يتقاطع مع السياسات العمومية، ويتسلل إلى المنظومة الإدارية والاقتصادية، ويهدد الأسس الأخلاقية التي يقوم عليها المجتمع، "فالفساد، بحسب نفس المتحدث، ليس فقط خرقا للقانون، بل هو أيضا فشل في الحكامة، واعتلال في العلاقة بين المواطن ومؤسساته، وانحراف عن المصلحة العامة، وتهديد مباشر لشرعية الفعل العمومي.
googletag.cmd.push(function() { googletag.display('div-gpt-ad-1667386526530-0'); });
ويؤكد بنعليلو أن مواجهة الفساد لا يمكن أن تظل مرهونة بمنطق رد الفعل، أو بالتدخل بعد وقوع الضرر، أو بتحريك المساطر بشكل ظرفي، ولا حتى بحملات تجميع المبادرات المتناثرة دون رؤية موحدة.
لقد أصبح المطلوب اليوم تحقيق تحول مؤسسي عميق، قوامه الانتقال من منطق "التصدي والمعالجة" إلى منطق "الوقاية الذكية والاستباقية"، ومن الاكتفاء بوصف الظواهر، إلى بناء أنظمة قادرة على فهمها وقياسها والتنبؤ بها، ومن معالجة الحالات الفردية على تعددها، إلى هندسة النزاهة كنظام عام شامل يستوعب القطاع العام والقطاع الخاص معا. بمنطق الوقاية الذكية، والاستباق، والإنذار المبكر، والذكاء المؤسساتي، والتوجيه المعياري، والتعبئة المجتمعية، وبناء كتلة وطنية واسعة تتقاطع فيها مسؤوليات الدولة والمجتمع.
واعتبر رئيس هيئة النزاهة أن الاستراتيجية المعلن عنها جاءت لتجيب عن عدد من الإشكالات والتحديات البنيوية التي تواجه المنظومة الوطنية للنزاهة، كتباين المقاربات بين الفاعلين العموميين والخواص، ومحدودية ثقافة القياس والتقييم، وهشاشة الثقة المجتمعية في فعالية الآليات القائمة، واتساع الطلب الاجتماعي على الشفافية والإنصاف، وتشتت الجهود وإن تعددت المبادرات؛
واعتبر نفس المصدر أن محاور هذه الاستراتيجية صيغت بشكل منهجي يحاول الإجابة عن هذه الإشكاليات من زاوية مؤسساتية تؤطرها ضوابط الاختصاص وتوجهها موجهات التكاملية.
وهكذا تأسست الاستراتيجية الخماسية للهيئة على إدراك أن القيادة الفعلية لمنظومة النزاهة تبدأ من القدرة على فهم الواقع وتقييمه وتوجيهه؛ لذلك أتى المحور الأول المتعلق ب "تعزيز القيادة المعيارية والاستشرافية للهيئة في توجيه السياسة العمومية في مجال النزاهة وتخليق الحياة العامة والحياة السياسية" ليجعل من الهيئة الموجه الاستراتيجي لمنظومة الوقاية من الفساد. فإضافة إلى تقييم الاستراتيجية الوطنية لمحاربة الفساد 2015-2025، كهدف محدد خلال هذه السنة، تقدم الهيئة تصورا لخارطة طريق جديدة تقوم على إعداد منظومة وطنية للقياس والمؤشرات، ووضع باروميتر وطني للنزاهة، وصياغة توجيهات استراتيجية تصلح كمرجع موحد للقطاعات الحكومية والقطاع الخاص وهيئات المجتمع المدني لصياغة استراتيجية وطنية من جيل جديد لمكافحة الفساد، على حد ما صرح به محمد بنعليلو.
أما المحور الثاني ضمن نفس المخطط، فيتعلق بـ"تمكين الفاعلين العموميين والقطاع الخاص والمجتمع المدني من آليات الوقاية واليقظة المبكرة ضد مخاطر الفساد" فقد تم ربطه بالوقاية واليقظة، ليترجم قناعة أساسية لدى الهيئة مفادها أن منع الفساد قبل وقوعه هو أكثر فعالية وأقل كلفة وأعمق أثرا من معالجته بعد أن يتحول إلى ملف قضائي أو قضية رأي عام. وهنا حرصت الهيئة على أن تشتغل على إنشاء منظومة وطنية للتبليغ الآمن، وعلى دعم الإدارات والمؤسسات والمقاولات في بناء أنظمة الامتثال الداخلية الخاصة بها، وتدبير تضارب المصالح، وإحداث قدرات يقظة مبكرة في المجالات ذات المخاطر المرتفعة مثل الصفقات العمومية والاستثمار والخدمات الحيوية للمواطن والمقاولة.
وبالنسبة للمحور الثالث، المتعلق بـ "إشاعة ثقافة النزاهة باعتبارها سلوكا مواطنا ومنظومة قيم عمومية، عبر التربية، المواكبة، والتأطير الأخلاقي للمجال العام، والانخراط المجتمعي والإعلامي"، فإن الهيئة تدرك أن التغيير الحقيقي يبدأ من داخل المجتمع، وأن النزاهة ليست مجرد سياسة عمومية، بل هي سلوك مواطن، ومنظومة قيم، وتمثل أخلاقي. لذلك ركزت في برامجها على إدماج قيم النزاهة في المدرسة والجامعة والتكوين المهني، وعلى تصميم برامج للشباب، وعلى دعم الصحافة الاستقصائية وصحافة البيانات، وعلى تعزيز إشراك المجتمع المدني باعتباره قوة رصد وتنبيه واقتراح. فالمجتمع المدني في هذا المحور ليس شريكا تكميليا، بل مُكونا أساسيا من مكونات جبهة النزاهة الوطنية، وصوته جزء من الشرعية العمومية.