على امتداد نصف قرن من الرصانة الجيوسياسية والاستراتيجية البَنّاءة، نسجت المملكة المغربية فصلاً نوعياً في سجل العلاقات الدولية المعاصرة، مُحيلةً مسار قضية الصحراء المغربية من دائرة الاشتباك الإيديولوجي والتأزيم المصطنع إلى فضاء الوضوح الأممي والإجماع الاعترافي. لقد تحوّل الملف من منطلق التجاذبات الإقليمية إلى منصة للتمكين القانوني وتأكيد القيادة الأفريقية الرشيدة.
لم تكن الأقاليم الجنوبية للمغرب يوماً مادةً للنزاع الترابي، بل هي امتداد عضوي لنسيج الدولة المركزية، ومرتكز للشرعية التاريخية المتجذرة في بيعة متواصلة بين العرش والشعب. إن ما تم ترويجه كـ "خلاف حدودي" هو في جوهره تباين مفاهيمي عميق بين: نموذج الدولة-الأمة ذات الجذور الممتدة والشرعية المؤسساتية المتوارثة، ونموذج الكيانات العابرة التي تحرّكها حسابات الجغرافيا السياسية المؤقتة.
منذ الملحمة السلمية للمسيرة الخضراء عام 1975، وصولاً إلى قرار مجلس الأمن رقم 2797 الصادر بالإجماع في 31 أكتوبر 2025، سار المغرب على مسار الثقة الذاتية والدبلوماسية الاستباقية، مُجَسِّداً تحويل الانتظار السياسي إلى تأطير قانوني مُحكم للسيادة.
googletag.cmd.push(function() { googletag.display('div-gpt-ad-1667386526530-0'); });
*الدبلوماسية الملكية: حسم القانون وتأكيد العمق الأفريقي*
في ظل القيادة الرشيدة لجلالة الملك محمد السادس نصره الله، ارتقى ملف الصحراء من مُجرّد أجندة سياسية إلى مقاربة قانونية ودستورية كبرى تتكامل مع العمق الاستراتيجي للمملكة في القارة الأفريقية. لقد ربط جلالته بين الشرعية التاريخية والضرورة القانونية، واعتبر أن التأطير التشريعي والتقنين الدستوري هما البرهان الأقوى على التمسك الثابت بالسيادة الوطنية الكاملة.
أما على الصعيد الدولي، فقد أدار المغرب دبلوماسية رسمية حكيمة، نجحت في تحويل الدفاع عن القضية إلى موقف قانوني رصين. وتميزت هذه الدبلوماسية بـ العودة المظفرة إلى الاتحاد الأفريقي عام 2017، التي لم تكن مجرد عودة بروتوكولية، بل كانت تأكيداً لأحقية المغرب في لعب دور القاطرة التنموية في القارة، وتفكيكاً ممنهجاً للأطروحات الإيديولوجية التي حاولت استغلال المنظمة القارية.
لقد تحوّل المغرب إلى مدرسة في الديبلوماسية المُتَمكنة و التواصل الراقي الذي يجمع بين بلاغة الموقف السيادي وأناقة الخطاب الملكي و الديبلوماسي و كذا الخطاب القانوني المُوثّق والرؤية الأفريقية للتنمية المشتركة.
*31 أكتوبر 2025: البُعد القانوني للقرار 2797 والإقرار الأممي*
إن القرار الأممي رقم 2797 لم يكن مجرّد إجراء إداري، بل كان بمثابة إقرار قانوني دولي غير مسبوق يُبشّر ببداية مرحلة التفعيل. لقد حدد القرار ستة مرتكزات واضحة رسّخت مبادرة الحكم الذاتي كـ المرجعية القانونية والسياسية الوحيدة للحل.
أهم الأبعاد القانونية لقرار 2797:
* الإرساء القانوني لمبدأ الواقعية والتوافق: التأكيد على أن الحل يجب أن يكون "جاداً وواقعياً وذا مصداقية"، وهو ما ينسف قانونية أي طرح لا يراعي المقتضيات الجيوسياسية والقانونية للمنطقة.
* التثبيت القانوني للمائدة المستديرة: تثبيت صيغة المائدة المستديرة كإطار تفاوضي حصري، مع تحميل كافة الأطراف المسؤولية القانونية والأخلاقية عن حالة الجمود.
* تأكيد عدم المساس بالسيادة المغربية: بالرغم من أن القرار يمدد ولاية المينورسو، فإنه يفعل ذلك ضمن سياق التنزيل السياسي للحل، مما يؤكد أن المهمة الأممية مهمة لوجستيكية للمبعوث الأممي و كذا لصيانة وقف إطلاق النار أو رد فعل يمس بمقتضيات القرار، وليس للتشكيك في السيادة الوطنية الثابتة للمغرب بل لحمايتها ألم غاية تنزيل مقتضيات الحكم الذاتي في غضون السنة المقبلة.
*التنزيل الدستوري للحكم الذاتي: الجهوية المتقدمة كإطار قانوني أولي*
إن التفعيل العملي لمقتضيات الحكم الذاتي ينطلق من منظومة قانونية ودستورية متكاملة تضمن الوحدة السيادية مقابل التدبير الذاتي المحلي.
* دستور 2011 والرهان الدستوري: شكّل دستور 2011 مرجعية أساسية، حيث رسخ الجهوية المتقدمة كخيار استراتيجي. الجهوية في المغرب ليست مجرد تفويض إداري، بل هي نقل جذري للصلاحيات وتكريس لمبدأ التدبير الحر (Principe de libre administration) للجهات المنتخبة، مما يوفر الإطار الدستوري المتكامل لـتنزيل مقتضيات الحكم الذاتي.
* القانون التنظيمي للجهات والتمكين التشريعي: صدر القانون التنظيمي للجهات (111.14) ليعطي صلاحيات تشريعية وتنفيذية واسعة للمجالس الجهوية المنتخبة، مما يضمن الاستقلال الإداري والمالي والمشاركة الفعالة لسكان الصحراء في تدبير شؤونهم.
*البُعد الجيوسياسي الأفريقي: الصحراء بوابة التنمية جنوب-جنوب*
إن المغرب لا ينظر إلى قضية الصحراء كملف حدودي معزول، بل كقضية سيادة متصلة بمشروع التكامل الأفريقي.
* الصحراء كقاعدة لوجستية أفريقية: تشكّل الأقاليم الجنوبية، خاصة مع مشاريع البنية التحتية الكبرى مثل ميناء الداخلة الأطلسي، بوابة استراتيجية للمملكة نحو عمق القارة. هذا التموقع يخدم الأجندة الأفريقية للتنمية والاتصال اللوجستي، ويرسخ الدور الريادي للمغرب كـ قطب للاستقرار والتنمية جنوب-جنوب.
* تفكيك الإيديولوجيا الانفصالية في الاتحاد الأفريقي: نجحت الدبلوماسية المغربية في تجريد الأطروحات الانفصالية من دعمها داخل المنظمة القارية، عبر العمل على ترسيخ مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأعضاء.
*القرار 2797: خاصية الإجماع الصامت وانعكاساته الجيوسياسية*
الخاصية التاريخية للقرار: في حالة نادرة في تاريخ قرارات مجلس الأمن، لم يصوّت ضد القرار أي دولة عضو، وهو ما يرسخ أن الخيار الانفصالي فقد كل سند قانوني أو سياسي مؤثر داخل مجلس الأمن، ليصبح الحل المغربي الخيار الدولي الواقعي الوحيد…هذا الإجماع الصامت يبعث برسالة واضحة لا لبس فيها! حتى من طرف العضو الوحيد الذي لم يشارك في التصويت و كان بإمكانه التصويت ضده!
و يجد بالتذكير ان تصويت الولايات المتحدة وفرنسا لصالحه أدو إلى حسم الموقف الغربي ودعم المبادرة المغربية كحل وحيد.
*الولايات المتحدة الأمريكية : تأكيد الرؤية الجيوسياسية*
تُعتبر الولايات المتحدة الراعي والمحرّك الرئيس للقرار، معززة موقفها منذ اعترافها بالسيادة المغربية على الصحراء في ديسمبر 2020. يُحوّل القرار الاعتراف الثنائي إلى إطار أممي مدعوم سياسياً، مؤكدًا أن الحل المغربي يضمن الاستقرار الأمني في منطقة الساحل وشمال إفريقيا، ويفتح أفقًا للتنمية المستدامة ومكافحة التطرف، إلى جانب حماية مصالح واشنطن الاقتصادية من خلال مشاريع البنية التحتية المغربية، كـ ميناء الداخلة الأطلسي.
*فرنسا: تكريس الشراكة الاستراتيجية والتوافق الأوروبي
*
صوتت فرنسا لصالح القرار، مؤكدة دعمها لمبادرة الحكم الذاتي، ومكرسة الشراكة العميقة بين باريس والرباط. كما ساهم موقفها في توجيه الموقف الأوروبي العام نحو دعم الحل المغربي، بما يضمن تعاونًا أمنياً فعّالاً مع الولايات المتحدة في مواجهة التهديدات العابرة للحدود.
*روسيا والصين : الحياد المتحفظ الذي يصب في صالح المغرب*
وفي المقابل، يمثل تحفظ الصين وروسيا عن التصويت "تحفظاً إيجابياً" لصالح المغرب. عدم استخدام هاتين القوتين لحق النقض (الفيتو)، رغم القدرة عليه، يُعتبر ضوءاً أخضر للمقاربة الأمريكية-المغربية وإشارة واضحة لعدم رغبة القوتين في إعاقة القرار.، تقديراً للعلاقات الثنائية الإيجابية مع المملكة ومصالحها الاقتصادية.
يرسخ هذا الإجماع أن الخيار الانفصالي لم يعد يملك أي سند قانوني أو سياسي أو دبلوماسي مؤثر داخل أعلى هيئة تقريرية أممية. لقد أصبح الحل المغربي هو الخيار الدولي الواقعي الوحيد. حيث يعتبر التحفظ في شقه الإيجابي لصالح المغرب و في شقه السلبي ضد حامل القلم نظرا لثوتر علاقات هاتين الدولتين مع الولايات المتحدة الأمريكية في إطار السياقات الدولية الراهنة و رغم هذا لم تصوت ضد القرار ! مما يعد انتصاراً ديبلوماسيا لحق المغرب و لطرحه و مقترحه و الإجماع عليه.
*المغرب: قوة السيادة القانونية واليد الممدودة*
رغم هذا الانتصار القانوني والتاريخي، لم يرَ المغرب نصرًا على أحد، بل انتصارًا للقانون الدولي وللشرعية التاريخية. اليد الممدودة التي يقدّمها المغرب لجيرانه هي تعبير عن قوة قانونية ودستورية ناضجة، و أخلاق سياسية نبيلة، ودعوة صادقة و صريحة لإغلاق ملفات الوهم والالتحاق بالمنطق القانوني الجديد الذي كرسه القرار 2797، من أجل مستقبل مغاربي موحد ومستقر، يعزز بدوره الأمن والاستقرار في الفضاء الأطلسي الأفريقي.
*السيادة بالإرادة والإنجاز القانوني والعمق الأفريقي*
سيسجّل التاريخ أن المغرب لم ينتصر بالسلاح، ولا بالدعاية، بل بقوة الحق و المنطق و التاريخ و بالثبات القانوني، والذكاء الدستوري، والإنجاز التنموي. لقد حوّل الدبلوماسية إلى فنٍّ من فنون التقنين والتأطير القانوني الرصين، مدعوماً بعمقه الجيوسياسي الأفريقي.
في 31 أكتوبر 2025، صدر اعتراف أممي قاطع بما أكده التاريخ والدستور:
أن الصحراء كانت وستبقى مغربية، روحاً وحقاً، أرضاً وإنساناً، بسيادة قانونية كاملة وإطار دستوري مؤسس للحكم الذاتي، لتستكمل دورها كعمق أفريقي استراتيجي للمملكة.