مودن رئيس منتدى البحث بوزارة المالية : مشروع مالية 2026 جاء بمقتضيات تتماشى مع التعليمات الملكية من أجل مغرب السرعة الواحدة

أجرى الحوار أحمد بلحميدي الجمعة 31 أكتوبر 2025
No Image

مشروع قانون مالية 2026 في عهد الولاية الحكومية الحالية. مشروع جاء في سياق خاص، يتمثل في دعوة جلالة الملك محمد السادس إلى اعتماد إطلاق جيل جديد من برامج التنمية المندمجة والمجالية. في هذا الحوار نستطلع مع عثمان مودن، رئيس منتدى الباحثين بوزارة الاقتصاد والمالية والمتخصص في المالية العمومية، كيف تعامل المشروع مع هذه التطوارت.

1- بداية ما هي سياقات إعداد مشروع قانون المالية لسنة 2026؟

لا بد من الإشارة بداية إلى أن مشروع قانون المالية لسنة 2026 يعد آخر مشروع قانون مالية في عهد الحكومة الحالية، ومن المفترض أن يكون الحجر الأخير في زاوية تنزيل وتنفيذ البرنامج الحكومي 2021-2026.

وكما هو حال قوانين المالية السابقة، من 2021 إلى 2025، التي أعدت في ظل سياقات وطنية ودولية مضطربة، تتمثل في ظرفية وطنية طبعتها قوة قاهرة مترتبة عن فيضانات المغرب الشرقي، والزلزال العنيف الذي ضرب منطقة الحوز، والجفاف إلى جانب الظرفية الاقتصادية الدولية المتسمة بطابع اللايقين وتزايد التوترات وما أفرزته الأزمة في الشرق الأوسط - الحرب على غزة- والأزمة الأوكرانية الروسية المستمرة، إلى جانب تبعات جائحة كورونا وآثارها على الاقتصاد الوطني.

وإذا كانت الأوضاع الحالية أكثر استقرارا من تلك التي عرفتها قوانين المالية السابقة، لكن مع ذلك يتعين استحضار استمرار الظروف المناخية الصعبة وكذلك التوترات الجيوسياسية فضلا عن السياسات الحمائية الجمركية بين أمريكا والصين وبعض البلدان الأخرى.

هذا بخصوص مجمل السياقات التي أعد في إطارها المشروع، والذي انطلقت مسارات إعداده منذ 15 مارس 2025 مع منشور رئيس الحكومة حول البرمجة الميزانياتية لثلاث سنوات 2026-2028، مرورا بعرض وزيرة الاقتصاد والمالية أمام المجلس الحكومي وأمام لجنتي المالية بالبرلمان في 24 يوليوز 2025 حول تقدم تنفيذ قانون المالية لسنة 2025 والإطار العام لمشروع قانون المالية لسنة 2026 والبرمجة الميزانياتية لثلاث سنوات 2026-2028.

لكن قبل ذلك، هناك الخطاب الملكي بمناسبة الذكرى السادسة والعشرين لعيد العرش المجيد الذي أكد فيه جلالة الملك أنه «لن يكون راضيا، مهما بلغ مستوى التنمية الاقتصادية والبنيات التحتية، إذا لم تساهم، بشكل ملموس، في تحسين ظروف عيش المواطنين، من كل الفئات الاجتماعية، وفي جميع المناطق والجهات»، وأنه «لا مكان اليوم ولا غدا لمغرب يسير بسرعتين».

وأيضا خطاب افتتاح الدورة التشريعية الحالية في 10 أكتوبر 2025 الذي أكد فيه جلالة الملك على ضرورة إطلاق جيل جديد من برامج التنمية المندمجة والمجالية وتكريس تنمية متوازنة، شاملة ومتضامنة تشمل كل جهات المملكة.

مشروع قانون المالية، استحضر كذلك احتجاجات شباب ما يسمى بـ"جيل زيد" وما حملته من مطالب ذات صبغة اجتماعية خصوصا في مجال الصحة والتعليم والتشغيل، والتي كانت تعبيرا عن الكيفية التي ينظر بها الجيل الحالي لمستقبله، فكان اجتماع المجلس الوزاري بتاريخ 19 أكتوبر 2025 للتداول في التوجهات العامة لمشروع قانون المالية، مناسبة لتوجيه صاحب الجلالة الحكومة لضرورة الرفع من ميزانية قطاعي الصحة والتعليم والرفع من مناصب الشغل المحدثة.

في ظل هذا السياق ما هي أبرز التحديات التي قد تواجه تنزيل المشروع؟

لعل الشيء الثابت في التحديات والإكراهات التي اعترضت قوانين المالية السابقة ومشروع قانون المالية الحالي هو عامل المناخ والجفاف، الذي يعد أحد الثوابت الأساسية في منظومة التحديات التي واجهت قوانين المالية السابقة بالمغرب، ولا يزال يشكل قيدا رئيسيا على مشروع قانون المالية لسنة 2026. فبلادنا ستعرف، وفق المؤشرات المناخية الحالية سنة جافة جديدة من شأنها أن تؤثر سلبا على الموسم الفلاحي، وبالتالي على القيمة المضافة للقطاع الفلاحي ضمن الناتج الداخلي الخام.

هذه الوضعية مرشحة لأن تحدث ضغوطات إضافية على الميزانية العامة، ليس فقط من حيث الدعم المالي الموجه للقطاع الفلاحي، ولكن أيضا لتغطية فاتورة واردات الحبوب في ظل تراجع الإنتاج الوطني، علما أن فرضية إنتاج 70 مليون قنطار، التي استندت إليها الحكومة في إعداد هذا المشروع أمرا صعب المنال في السياق الحالي، خصوصا وأننا أنهينا الموسم الفلاحي المنصرم بإنتاج قدره 43 مليون قنطار فقط. لذلك، فإن التحديات المناخية تفرض إعادة النظر في أولويات الإنفاق العام، عبر الرفع من حجم الاستثمار في البنيات التحتية المائية، خصوصا مشاريع تحلية مياه البحر، والسدود، ونقل المياه بين الأحواض.

وتظل الإشكالية الجوهرية المطروحة مرتبطة بمدى قدرة الحكومة على تحقيق نسبة النمو المفترضة في مشروع قانون المالية، بالنظر إلى أن كل نقطة إضافية في معدل النمو تترجم، نظريا، إلى خلق فرص شغل جديدة، خاصة وأنه فيما مضى كان المغرب يترجم كل نقطة مضافة للنمو بخلق أزيد من 30 ألف منصب شغل، لكن في السنوات الأخيرة تراجع هذا المعدل إلى النصف، كما أن العلاقة بين النمو والتشغيل تعرف تراجعا في الفعالية مقارنة بالسنوات السابقة، حيث لم يعد معدل خلق فرص الشغل يواكب نسق النمو الاقتصادي بالقوة نفسها، وهو ما يصعب تحقيق أحد المطالب الاجتماعية المركزية المرتبطة بتشغيل الشباب والوفاء بالالتزامات الحكومية في هذا المجال، هذا دون الحديث عن تداعيات التوترات الجيوسياسية وتنامي السياسات الحمائية التي أشرنا إليها من قبل، والتي تمثل عاملا خارجيا مؤثرا قد يحد من تحقيق بعض الفرضيات المعتمدة في مشروع قانون المالية لسنة 2026، خصوصا تلك المتعلقة بالنمو، واستقرار الأسعار، وكلفة الطاقة.

لكن رغم كل ذلك لا ينبغي للحكومة أن تختبئ وراء هذه الإكراهات لتبرير عدم قدرتها على تنزيل برنامجها الحكومي، خصوصا وأن هناك مؤشرات دولية موازية إيجابية سجلت في النصف الأول من هذه السنة، مرتبطة بانخفاض أسعار النفط في الأسواق الدولية، رغم أن المواطن لا يلمس في كثير من الأحيان انعكاس انخفاض الأسعار الدولية على السوق الوطنية، وكذلك تراجع أسعار القمح اللين على المستوى الدولي، إلى جانب دينامية إيجابية من قبيل استمرار الأداء الاستثنائي لقطاع السياحة، وتحسن قطاع النقل بفضل التطور الملحوظ في عدد المسافرين عبر المطارات المغربية، وانتعاش قطاع التجارة نتيجة تحسن استهلاك الأسر.

إذا كان المشروع قد جاء بمقتضيات لتحسن أداء الصحة والتعليم عبر رفع الاعتمادات المخصصة لهذين القطاعين. فماذا عن التشغيل؟

البرنامج الحكومي كان قد وعد بإحداث مليون منصب شغل، لكن الواقع يؤكد أنها بعيدة عن تحقيق هذا الرقم، ودون الحاجة إلى التذكير ببعض البرامج التي تضمنتها قوانين المالية السابقة من قبيل فرصة وإدماج وأوراش، التي اعتبرت ذات أثر محدود نظرا لطابعها المؤقت في حل أزمة التشغيل، ولكون المناصب المحدثة في إطارها هشة وتقتصر في الغالب على قطاعات الخدمات والبناء، فإن مشروع قانون المالية وبناء على التوجيهات الملكية المعبر عنها في الخطابات الملكية وكذا في اجتماع المجلس الوزاري الأخير، أحدث ما يقارب 37 ألف منصب شغل في القطاع العام، إضافة إلى 19 ألف منصب في إطار الأكاديميات الجهوية للتربية والتكوين، وهو رقم يعد سابقة في قوانين المالية، بحيث انتقلنا من 28906 مناصب شغل في قانون المالية 2025 إلى 36895 منصبا في مشروع قانون المالية 2026 بنسبة تطور بلغت 28% ، وتأتي قطاعات الداخلية (13000)، الصحة (8000)، التعليم العالي (1759)، المندوبية العامة لإدارة السجون (2020)، ووزارة الاقتصاد والمالية (2600)، في مقدمة القطاعات التي خصصت لها مناصب شغل في ظل المشروع.

إضافة إلى مناصب الشغل المحدثة في القطاع العام، فإن الحكومة تراهن بالدرجة الأولى على مناصب الشغل خارج هذا النطاق، والتي تحدثها مقاولات القطاع الخاص وعلى المبادرة الذاتية، ولقد آن الأوان للقطاع الخاص أن يتحمل مسؤوليته من منطلق المسؤولية المجتمعية لهذا القطاع، فمقابل استفادته من العديد من الامتيازات والتحفيزات الضريبية وغيرها، ينبغي أن يقوم بدوره في التشغيل وامتصاص ملايين المعطلين، خصوصا حاملي الشهادات العليا، على اعتبار أن دور هذا القطاع يظل محصورا بنسبة كبيرة على مستوى تشغيل خريجي بعض مؤسسات التكوين المهني، دون الانفتاح على خريجي معاهد ومؤسسات التعليم العالي، كما ينبغي على الحكومة تحفيز المبادرات الشبابية الرامية إلى التشغيل الذاتي، وإعطاء أهمية للمقاولات الصغرى والمتوسطة باعتبارها تشكل 90% من النسيج المقاولاتي المغربي، وتعرف انتشارا واسعا في جميع التراب الوطني، وتعد أهم مصادر التشغيل وقادرة على خلق مناصب متنوعة وكثيرة، ومن شأنها أن تكون عاملا أساسيا في نجاح برامج ومبادرات التشغيل على المستوى الترابي المندمج المزمع إطلاقها في سنة 2026، وهو ما يتماشى مع أولويات الحكومة ورغبتها في تفعيل التنمية الاقتصادية على المستوى الترابي، كوسيلة لتحفيز التشغيل وتوطين الفرص في الأقاليم، تنزيلا للتوجهات الملكية السامية في هذا المجال. كما لا ينبغي أن ننسى أن الرفع من حجم الاستثمار العمومي، يعد آلية مهمة لخلق مناصب الشغل على اعتبار أن هذه الاستثمارات يتم تنزيلها من خلال صفقات عمومية تستفيد منها المقاولات والشركات المغربية وتترجم إلى مناصب شغل، فقط ينبغي ضمان تطبيق أمثل للمقتضيات المتعلقة بأفضلية المقاولة المغربية وولوج المقاولات الصغرى والمتوسطة إلى هذه الصفقات، وهو ما تنبه له مرسوم الصفقات العمومية لسنة 2023.

دعا جلالة الملك إلى إطلاق جيل جديد من مشاريع التنمية يركز على المجال والاندماج، من أجل عدالة مجالية واجتماعية كيف تفاعلت الحكومة؟

تجاوبا مع التوجهات الملكية من أجل تنزيل البرامج التنموية الجديدة وإرساء معالم تنمية ترابية مندمجة تقرب السرعات بين مناطق المغرب، تضمن مشروع قانون المالية لسنة 2026 مقتضى في مادته السادسة عشر، يروم تغيير مسمى حساب مرصد لأمور خصوصية من «صندوق التنمية القروية والمناطق الجبلية» إلى «صندوق التنمية الترابية المندمجة». هذا الصندوق سيتولى، إلى جانب المهام المسندة للصندوق سابقا، أداء النفقات المتعلقة بتمويل برامج ومشاريع التنمية الترابية المندمجة لا سيما تلك المتعلقة بدعم التشغيل عبر تثمين المؤهلات الاقتصادية الجهوية وتوفير مناخ ملائم للمبادرة والاستثمار المحلي، وتقوية الخدمات الاجتماعية الأساسية خاصة التربية والتعليم والرعاية الصحية؛ والتدبير الاستباقي والمستدام للموارد المائية في ظل تزايد حدة الإجهاد المائي وتغير المناخ، والتأهيل الترابي المندمج.

لكن قبل ذلك أود أن أذكر أن أصل هذا الصندوق، يرجع إلى قانون المالية لسنة 1994 حين أحدث تحت مسمى «صندوق التنمية القروية» وكان يدبره الوزير الأول / رئيس الحكومة، كآمر بصرف نفقاته وتحصيل مداخيله، وتم تغيير تسميته بموجب قانون المالية لسنة 2012 إلى «صندوق التنمية القروية والمناطق الجبلية»، قبل أن يقوم قانون المالية لسنة 2016 بإسناد مهمة الأمر بالصرف لهذا الحساب إلى وزير الفلاحة، تزامنا مع الرفع من الاعتمادات المخصصة له لتنزيل برنامج تقليص الفوارق المجالية (الطرق والمسالك القروية، التعليم، الصحة، التزود بالماء الصالح للشرب، الكهرباء)، حيث خصص له اعتماد يفوق 50 مليار درهم، تنفيذا للتوجهات الملكية آنذاك والداعية للاهتمام بالعالم القروي وتقليص الفوارق المجالية بينه وبين المناطق الحضرية.

وقد أثيرت نقاشات واسعة آنذاك لدرجة الجدل حول من له الصلاحية في تولي تدبير الحساب هل رئيس الحكومة أم وزير الفلاحة أم غيرهما؟ وسيطفو جدل جديد حول الصندوق بمناسبة مناقشة مشروع قانون المالية لسنة 2023 بين فرق الأغلبية البرلمانية، حيث ظل حزب الاستقلال والأصالة والمعاصرة يطالبان بتمكين وزير التجهيز والماء ووزيرة إعداد التراب الوطني والتعمير من بسط يدهما على اعتمادات هذا الحساب، لكن

مهما كانت المرحلة وتغيير الأشخاص والصفات فإن المنطق الدستوري، وكذا طبيعة تدخلات "صندوق التنمية الترابية المندمجة" المتعددة والشاملة والبين الوزارية، ولضرورة ما يتطلبه من تنسيق للسياسات العمومية، فلا يعقل أن يكون وزير الفلاحة هو الآمر بالصرف له، بل يفترض أن يسند أمر تدبير الحساب لرئيس الحكومة، حتى وإن كان هناك تخوف من أن يتحول الصندوق إلى أداة للدعاية الانتخابية، خصوصا في العالم القروي عبر مشاريع موجهة، على اعتبار أن سنة 2026 هي سنة انتخابية بامتياز، والصندوق رصدت له اعتمادات يمكن صرفها برسم السنة نفسها، تبلغ 5 ملايير درهم، إضافة إلى 15 مليار درهم كاعتمادات يمكن للأمر بالصرف الالتزام بها مقدما خلال السنة المالية 2026 من الاعتمادات التي ستخصص له في السنة المالية 2027، والجميع يعلم ما يشكله العالم القروي كخزان انتخابي.

لذلك، فإن تنزيل المشاريع التي يمولها صندوق التنمية الترابية المندمجة – باعتباره مشروعا ملكيا طموحا - ينبغي من جهة البحث عن آلية تضمن احترام الدستور وقواعد التدبير المالي العمومي، ومن جهة أخرى ضمان رقابة فعالة كفيلة بأن لا يتحول إلى أداة للدعاية الانتخابية والاستغلال السياسي، وينبغي على المدبر الحكومي، الفاعل السياسي، أن يستحضر مصلحة الوطن أولا وأخيرا والابتعاد عن المصالح الحزبية الضيقة.

رغم الإكراهات الداخلية والخارجية، إلا أنه من حسن حظ آخر قانون مالية في ظل الولاية الحكومية الحالية، ارتفاع المداخيل ضريبية وغير ضريبية؟

صحيح، منذ بداية مرحلة التعافي من التداعيات الاقتصادية التي خلفتها جائحة كوفيد 19، سجلت الموارد العمومية تحسنا كبيرا، خصوصا على مستوى المداخيل العادية للميزانية العامة، إذ ارتفعت هذه المداخيل من368 مليار درهم خلال سنة 2025 إلى421 مليار درهم متوقعة في إطار مشروع قانون المالية لسنة 2026، أي بزيادة تناهز 53 مليار درهم. هذا التطور يعكس دينامية إيجابية في تعبئة الموارد الجبائية، وتحسن أداء الإدارة الضريبية، فضلا عن الأثر الإيجابي لتعافي النشاط الاقتصادي الوطني.

من هذا المنطلق، يتوقع أن يتواصل التطور الملحوظ للمداخيل الضريبية خلال السنة المالية المقبلة، أي سنة 2026، حيث من المنتظر أن تبلغ 376 مليار درهم، مقابل 329 مليار درهم المسجلة في قانون المالية لسنة 2025، أي بزيادة تناهز 46 مليار درهم، ما يمثل نسبة نمو تقارب 14%.، علما أن هذا الأداء يعزى إلى تحسن مستويات التحصيل الجبائي، وتوسيع الوعاء الضريبي، فضلا عن المردودية المتزايدة للرقمنة والإصلاحات الجارية في الإدارة الضريبية. هكذا تصدرت الضرائب غير المباشرة قائمة المداخيل الضريبية، إذ يتوقع أن تدر على خزينة الدولة ما يفوق 167 مليار درهم خلال السنة المالية 2026، مما يؤكد استمرار الدور المحوري للضريبة على القيمة المضافة (TVA) والضرائب على الاستهلاك في تمويل الميزانية العامة.

يلي ذلك في المرتبة الثانية الضرائب المباشرة والرسوم المماثلة، التي من المنتظر أن تحقق ما يزيد عن 165 مليار درهم، مدعومة أساسا بمردودية الضريبة على الدخل والضريبة على الشركات. أما رسوم التسجيل والتنبر، فيتوقع أن تبلغ حوالي 24 مليار درهم، في حين يرتقب أن تدر الرسوم الجمركية ما يقارب 18 مليار درهم.

ويبرز هذا الترتيب استمرار هيمنة الضرائب غير المباشرة على بنية الموارد الجبائية، وهو ما يعكس طبيعة النظام الضريبي المغربي الذي يعتمد بشكل كبير على الضرائب على الاستهلاك مقارنة بالضرائب على الدخل أو على رأس المال.

من جهتها عرفت المداخيل غير الضريبية، بدورها تطورا ملموسا، إذ انتقلت من 39 مليار درهم المدرجة في قانون المالية لسنة 2025 إلى 45 مليار درهم متوقعة في مشروع قانون المالية لسنة 2026، أي بزيادة قدرها 6 مليارات درهم، تُعادل نسبة نمو تقدر بـ15,6%..هذا الارتفاع يعكس تحسن العائدات المرتبطة بالمؤسسات والمقاولات العمومية، وكذا مردودية الاستثمارات العمومية وأرباح الشركات المملوكة للدولة.

ما أود الإشارة إليه بهذا الخصوص أن هامش تطور مردودية المداخيل الضريبية لا يزال واسعا وبإمكانه تحقيق نتائج ومردودية أفضل عبر التخلي عن كثير من الامتيازات والإعفاءات الضريبية الدائمة والمؤقتة الممنوحة لبعض الفئات والقطاعات التي منحها.

في هذا الإطار، ما هي أبرز المستجدات الجبائية للمشروع؟

منذ المناظرة الوطنية للإصلاح الجبائي لسنة 2019 والقانون الإطار رقم 69-19 المتعلق بالإصلاح الجبائي، عملت قوانين المالية الموالية على تنزيل مضامينهما وتوصياتهما بشكل تدريجي، ومشروع قانون المالية لسنة 2026 وإن كان قد تضمن مقتضيات جبائية أدرجتها المادة 7 من المشروع التي تقترح تعديل مجموعة من مواد المدونة العامة للضرائب، غير أنها ليست بنفس زخم السنوات السابقة، باستثناء بعض المقتضيات التي همت تعزيز إدماج القطاع غير المهيكل، وأخرى همت القطاع الرياضي إضافة إلى مقتضيات جديدة متعلقة بالرسوم الجمركية على بعض الفلاحية والأجهزة الإلكترو- منزلية.

لكن مقابل التحسن اللافت للمداخيل، هناك مشكل المديونية. ما هي الوضعية الراهنة؟

أكيد أن مديونية الخزينة، الداخلية والخارجية، عرفت ولا تزال تعرف ارتفاعا مطردا عبر السنوات، بحيث انتقلت هذه المديونية من 832.6 مليار درهم سنة 2020 إلى 1081,6 سنة 2024 بنسبة تطور تقارب 30%، ورغم هذه الوضعية وإذا استثنينا الارتفاع الذي عرفه حجم دين الخزينة بالنسبة للناتج الداخلي الخام سنة 2020 بسبب الجائحة الذي وصل إلى 72.2% وكذا سنة 2022 بسبب تراجع نسبة النمو الاقتصادي، حيث وصل الدين إلى 71,4% فإن مؤشر مديوينة الخزينة انخرط في منحى تنازلي ليسجل سنة 2024 نسبة 67,7% من الناتج الداخلي الخام، بحيث تراجع بحوالي 4,5 نقطة ما بين سنتي 2020 و 2024.

وإلى حدود منتصف سنة 2025، وصلت مديونية الخزينة إلى 1124,2 مليار درهم، 830.5 مليار درهم مديونية داخلية و293,7 مليار درهم مديونية خارجية، بنسبة تقارب 67,4% من الناتج الداخلي الخام.

وحتى وإن بدت وضعية هذه المديونية متحكما فيها بالنظر إلى بنية محفظة ديون الخزينة، التي تتشكل في غالبيتها من ديون داخلية بحصة 75,1% مقابل 24,9% كحصة الديون الخارجية، فإن الحكومة مطالبة ببذل مجهودات جبارة على عدة مستويات للخروج من وضعية المديونية هاته، من جهة حتى يتوفر لها هامش مناورة ميزانياتي كبير، لتنفيذ المشاريع والبرامج الكبرى التي تنظرها المملكة، ومن جهة أخرى ينبغي مقابل ذلك ضمان أن لا يصبح تنفيذ هذه البرامج والمشاريع آلية لارتفاع مهول لمؤشر المديونية. هذا وجدير بالذكر أن إجمالي الدين العمومي للمغرب، باحتساب الدين الخارجي لباقي الفاعلين: المؤسسات والمقاولات العمومية، المؤسسات ذات المنفعة العامة، وصل إلى 1280 مليار درهم أي بنسبة 80,2% من الناتج الداخلي الخام.

وبإطلالة سريعة على أرقام مشروع قانون المالية لسنة 2026 في علاقتها بالمديونية، فإن ما سيؤديه المغرب (كنفقات خدمة الدين العمومي من الميزانية العامة) سيبلغ أزيد من 108 ملايير درهم بينما من المتوقع اللجوء إلى تمويل ميزانيته باقتراض 123 مليار درهم؟ وحتى وإن كان هذا المبلغ يقع ضمن نطاق القاعدة المنصوص عليها في المادة 20 من القانون التنظيمي لقانون المالية، إلا أن تمويل الميزانية عن طريق الاقتراض دائما ما يبقى محل نقاش ويثير إشكالات عديدة، خاصة وإن كان تطور هذا التمويل يدور في حلقة مفرغة ويتصاعد عبر السنوات ككرة ثلج.

في الأخير لا بد من التأكيد على أن المغرب وفي ظل الأوراش الكبيرة المفتوحة والمتعددة سيعاني من ضغوطات على ميزانيته موازاة مع تزايد الإنفاق العمومي، لذا ينبغي على الحكومة أن تجتهد أكثر في بحثها عن تمويل هذه المشاريع وأن لا ترتهن دائما إلى الاقتراض حتى نتجاوز هذا المنعرج الفاصل في تاريخ المملكة، ونصل إلى سنة 2030 دون أن نؤزم وضعية ميزانيتنا أو نغرقها في مديونية مرتفعة، حتى لا نرهن مصير الأجيال القادمة، فتدبير حكيم لماليتنا العمومية اليوم، هو ما سيرهن ويحكم على نجاحنا وتطورنا في مرحلة ما بعد 2030.

نلاحظ كذلك تراجعا في مخصصات صندوق المقاصة، هل لذلك علاقة بالإصلاح المحتمل للصندوق؟

أكيد أن إصلاح صندوق المقاصة مشروع مطروح منذ سنوات، وأن تأجيل تنفيذه تفرضه دائما ضرورات إما سياسية أو ذات طبيعة اقتصادية واجتماعية فالكل يجمع على أن الوضعية الحالية للصندوق لا تستقيم، وأن المستفيدين منه بالدرجة الأولى ليست الطبقات الفقيرة والمتوسطة بل شركات ومؤسسات كبرى صناعية وفلاحية، تختبئ وراء منظومة الدعم الحالي لتحقق أرباحا كبيرة على حساب المواطن، وبالتالي فإلغاء هذا الصندوق قد يكون وسيلة للحد من هذا الريع، وهو ما كانت ترغب في تنفيذه الحكومة مطلع سنة 2026، خصوصا عبر التحرر من عبء النفقات الموجهة لدعم غاز البوتان في ظل الاستهلاك الكبير لهذه المادة، حيث استهلك المغاربة سنة 2024 ما يزيد عن 235,7 مليون قنينة غاز من فئة 12 كلغ، كلفت دعما قدره 15 مليار درهم، مقابل 234,2 مليون قنينة غاز سنة 2023 بدعم قدره 16,7 مليار درهم، هذا الدعم الذي كان قد بلغ معدلات قصوى خلال نهاية سنة 2022 لما يقارب 22 مليار درهم، وهو رقم تاريخي قياسي لم يسبق أن عرفته ميزانية دعم هذه المادة.

بتعبير واضح وبسيط عن كل قنينة غاز اقتناها المواطن في سنة 2023 دعمتها الدولة بمبلغ قدره 69 درهم، وقدمت الدولة دعما قدره 61 درهم عن كل قينينة غاز مقتناة سنة 2024.

ويعزى تراجع حجم الدعم بين سنتي 2023 و 2024 بناقص 1,7 مليار درهم رغم تزايد الاستهلاك بحوالي 1,5 مليون قنينة غاز، أساسا إلى تخفيض الدعم العمومي عقب رفع سعر البيع للمستهلك بمقدار 10 دراهم ابتداء من 20 ماي 2024، إلى جانب الانخفاض النسبي لأسعار غاز البوتان في السوق الدولية، الذي عززه تراجع سعر الصرف.

بالنظر إلى هذه المعطيات، فإن تخفيض الدعم العمومي في اتجاه إلغاء كلي للدعم يظهر كسيناريو حكومي لتوفير مبالغ مالية مهمة وتخفيف الضغوط على الميزانية.

غير أنه إن كان سيناريو إلغاء صندوق المقاصة مربح لميزانية الدولة، وسيغنيها سنويا عن التفكير في رصد اعتمادات مالية كبيرة للمواد المدعمة، غاز البوتان، دقيق القمح اللين والسكر)، وإذا كانت الحكومة ستوفر من وراء ذلك اعتمادات مالية مهمة يمكن توجيهها لورش الحماية الاجتماعية ومن ضمنها الدعم الاجتماعي المباشر الموجه لفائدة الأسر الفقيرة والهشة، لمجابهة ارتفاع الأسعار الناتج عن إلغاء الدعم، فإن تصورها لا يأخذ بالحسبان الآثار المحتملة لإلغاء صندوق المقاصة على الطبقات المتوسطة، التي تعاني من تبعات استمرار موجة التضخم وارتفاع الأسعار، مما يجعلها ترزح تحت ضغوطات إضافية، والكل يعلم أن الطبقة المتوسطة في أي بلد هي صمام الأمان الاجتماعي.