في الوقت الذي كان معروفا أكثر كفضاء للألعاب والدردشة، أساسا، غدا تطبيق "ديسكورد" في وقت وجيز أشهر من نار على علم، بعدما أصبح فضاء لميلاد الاحتجاجات بعدد من الدول تحت مسمى "جيل زيد"، منها المغرب. في هذا الحوار، نستطلع مع خبير الرقميات والأمن السيبراني، أنس أبو الكلام، كيف ولدت النسخة المغربية لـ«جيل زيد»، وما إذا كان الأمر يتعلق فعلا بحركة احتجاجية شبابية عفوية، أم تقف وراءها أياد أجنبية أو حتى داخلية، ركبت على هذه الاحتجاجات من أجل تحقيق غايات بعيدة عن مجرد مطالب اجتماعية من قبيل تحسين خدمات "الصحة" والتعليم".
*غدت منصة «ديسكورد» أشهر من نار على علم لارتباطها باحتجاجات الشباب بأكثر من دولة منها المغرب. بماذا يتعلق الأمر؟
في عالم التواصل الرقمي المتسارع، برز تطبيق "ديسكورد" كإحدى المنصات التي أصبحت تحظى بشعبية واسعة بين الشباب، وخاصة جيل "زد" المعروف بولعه بالتقنية وحبه للحرية في التعبير. هذا التطبيق تحول في وقت وجيز من فضاء مخصص للاعبين إلى مساحة رقمية متعددة الاستخدامات تجمع بين التواصل والتعاون والمشاركة.
googletag.cmd.push(function() { googletag.display('div-gpt-ad-1667386526530-0'); });
يتيح "ديسكورد" لمستخدميه إمكانية المحادثة عبر النص والصوت والفيديو داخل مجموعات تسمى "خوادم"، يمكن أن تضم قنوات مخصصة لمواضيع محددة، مما يخلق بيئة تفاعلية منظمة. يستطيع أي شخص الانضمام إلى خادم من خلال رابط دعوة، ليبدأ النقاش أو التفاعل مع الآخرين بسهولة ومرونة. هذه البنية جعلت منه منصة مفضلة ليس فقط للترفيه، بل أيضا للدراسة والعمل الجماعي وتبادل الأفكار. ما يميز "ديسكورد" عن غيره هو أنه يمنح المستخدم قدرا كبيرا من الخصوصية، إذ يمكن استعمال أسماء مستعارة دون الحاجة إلى الكشف عن الهوية الحقيقية أو رقم الهاتف، على عكس تطبيقات مثل "واتساب" أو "فيسبوك". لكنه ليس مجهولا بالكامل، لأن الشركة تحتفظ ببعض البيانات لأغراض الأمان، لكنه يمنح المستخدمين شعورا بالحرية والاستقلال داخل فضاء رقمي آمن نسبيا. هذا الجانب من الحرية هو ما يجذب جيل "زد" إلى المنصة. فالشباب اليوم يبحثون عن فضاءات رقمية يشعرون فيها بأنهم بعيدون عن الرقابة أو التتبع، وعن المنصات التي باتت تعتبر "عالم الكبار". كما أن "ديسكورد" يخلو من الإعلانات المزعجة والمحتوى التجاري المفرط، ما يجعله مكانا مثاليا للنقاش والتفاعل الصادق حول الاهتمامات المشتركة. إضافة إلى ذلك، فهو يجمع بين أدوات متعددة في تطبيق واحد: الدردشة، تبادل الملفات، الصوت، الفيديو، والتنظيم الجماعي.
هذا المزيج من الخصوصية والمرونة والتنوع جعل "ديسكورد" يتحول إلى فضاء ثقافي جديد لجيل شاب يبحث عن ذاته في عالم رقمي متغير. إنه أكثر من مجرد تطبيق للتواصل، بل هو انعكاس لطريقة جديدة يفهم بها الشباب العلاقة مع التقنية، حيث يصبح التواصل جماعيا، حرا، ومبنيا على الاهتمام المشترك لا على الهوية الشخصية. بهذه الروح، يمثل "ديسكورد" نموذجا واضحا للتحول في ثقافة التواصل لدى الجيل الجديد، من الانغلاق في التطبيقات التقليدية إلى بناء مجتمعات رقمية حية تعبر عن تنوع الفكر والهوية الرقمية المعاصرة.
*النسخة المغربية لـ«جيل زيد» ركزت على مطلبي الصحة والتعليم. هل الأمر كذلك بالنسبة لنظيراتها عبر العالم؟
**تعد "جيل زد"، الفئة العمرية المولودة بين أواخر التسعينيات وبداية العقد الثاني من الألفية، اليوم قوة اجتماعية وسياسية صاعدة على مستوى العالم. هذه الفئة، المتصلة رقميا، والمطلعة على الأحداث، والتي غالبا ما تشعر بخيبة أمل تجاه الأنظمة القائمة، بدأت تتحرك بشكل متزايد، معبرة عن مطالب تختلف حسب السياقات المحلية، لكنها تتقاطع في جوهرها حول الرغبة في العدالة والكرامة والتغيير الحقيقي.
في الدول المتقدمة، يتميز شباب "جيل زد" بانخراطهم في قضايا كونية ومجتمعية. وتبرز الصحة النفسية كأولوية قصوى، خاصة بعد تداعيات جائحة كوفيد-19، حيث يرفض هؤلاء الشباب تجاهل أزمة صامتة طالما همشتها السياسات العامة. إلى جانب ذلك، يظهر وعي بيئي حاد، إذ يدينون بشدة التغير المناخي، الاستهلاك المفرط، وتراخي الحكومات في اتخاذ إجراءات حاسمة. كما يطالبون بإصلاحات جذرية في أنظمة التعليم التي يرونها غير متماشية مع متطلبات سوق العمل، ومكلفة بشكل غير عادل، خصوصا في ما يتعلق برسوم الجامعات. وتشمل مطالبهم أيضا العدالة الاجتماعية، والمساواة، ومحاربة التمييز العرقي والجندري والاقتصادي. هؤلاء الشباب، رغم أنهم غالبا غير منتمين سياسيا، إلا أنهم منخرطون بعمق في قضايا مجتمعاتهم والعالم.
أما في الدول النامية، فتأخذ مطالب "جيل زد" طابعا أكثر إلحاحا ووجودية. ففي المغرب، على سبيل المثال، يحتج الشباب على ضعف النظام الصحي، وتدهور جودة التعليم، وتفشي الفساد. وفي مدغشقر، خرج الشباب إلى الشوارع احتجاجا على الانقطاعات المتكررة في الماء والكهرباء، وسوء الخدمات العامة، مطالبين بإصلاحات سياسية جذرية وصلت إلى حد المطالبة باستقالة الرئيس. أما في نيبال، فقد ثار الشباب ضد الرقابة الرقمية والامتيازات السياسية، ما أدى إلى أزمة حكومية وسقوط النظام بعد احتجاجات دامية. ورغم اختلاف الأولويات، فإن خيطا مشتركا يربط هذه الحركات: رفض النخب التقليدية، والمطالبة بالشفافية، والسعي إلى حكم أكثر عدالة. لم يعد "جيل زد" يكتفي باللامبالاة والحياد الصامت، بل أصبح يطمح أن يصبح فاعلا رئيسيا في صناعة التغيير، غالبا خارج الأطر المؤسساتية، وبأساليب مبتكرة تتحدى المألوف. هذا «الحراك» العالمي، رغم تبايناته، يشير إلى إعادة تشكيل العلاقة بين الشباب والسلطة. فالحكومات والمؤسسات والشركات باتت تواجه جيلا يطالب بالمحاسبة، ويرفض التسويات الظالمة، مسلحا بالهواتف الذكية والقناعات الراسخة.
*لماذا في نظركم تم التركيز على هذين القطاعين بالمغرب؟
**يبرز تركيز «جيل زد» في المغرب على قطاعي الصحة والتعليم كاختيار واع يعكس معاناة يومية ملموسة. فالشباب المغربي يحتك مباشرة بخلل المنظومة الصحية، خاصة بعد الفاجعة التي هزت الرأي العام إثر وفاة ثماني نساء حوامل في قسم الولادة بمستشفى الحسن الثاني بمدينة أكادير، وهو ما كشف عن حجم الاختلالات البنيوية داخل المؤسسة الصحية، وأدى إلى احتجاجات واسعة في أكثر من 11 مدينة مغربية.
هذه الحادثة، التي وصفها المحتجون بأنها "نقطة الانفجار" دفعت وزير الصحة إلى زيارة عاجلة للمستشفى، وانتهت بإعفاء عدد من المسؤولين وفتح تحقيقات قضائية واسعة. أما التعليم، الذي يفترض أن يكون بوابة الأمل، فقد فقد الكثير من مصداقيته في نظر الشباب بسبب تراجع الجودة، الاكتظاظ، وعدم ملاءمة المناهج لسوق العمل. هذا التركيز لا ينبع فقط من الحاجة، بل من شعور عميق بانعدام العدالة المجالية والاجتماعية، حيث تتسع الفجوة بين من يملك القدرة على التعلم والعلاج ومن لا يملكها. ومع انفتاح الشباب على العالم الرقمي، أصبح بإمكانهم مقارنة أوضاعهم بأوضاع نظرائهم في دول أخرى، ما عزز شعورهم بالغبن وعمق وعيهم بحقوقهم. الصحة والتعليم، في نظرهم، لم يعودا مجرد خدمات، بل رموزا لكرامة المواطن ومؤشرات على مدى احترام الدولة له. ويعد هذا التحول في أولويات الاحتجاج دلالة على نضج سياسي واجتماعي جديد، حيث لم تعد المطالب تقتصر على الشعارات السياسية، بل باتت تلامس جوهر الحياة اليومية، وتطالب بإصلاحات ملموسة تمس الإنسان في صحته، في تعليمه، وفي مستقبله. ورغم أن قائمة المطالب التي رفعتها "جيل زد" في المغرب لا تتطرق بشكل مباشر إلى القضايا السياسية البنيوية مثل تعديل الدستور أو إصلاح المؤسسات التشريعية، كما أن الحركة تتمسك بالمرجعية الملكية كمصدر للثقة والشرعية. هذا التوجه لا يعكس فقط احتراما للمؤسسة الملكية، بل يعبر أيضا عن رغبة في رؤية تغيير ملموس يأتي من أعلى هرم السلطة، خصوصا في المجالات التي تمس حياة الشباب بشكل يومي، مثل الصحة، التعليم، العدالة، التشغيل، ومحاربة الفساد. فالمطلب ليس ثورة على النظام، بل دعوة إلى إصلاح عميق يلامس الواقع، ويعيد الأمل لجيل يشعر أن كرامته تختبر يوميا في المستشفى، في المدرسة، وفي طوابير البحث عن عمل.
*ألا يتعلق الأمر بمطية من أجل كسب حاضن للحركة في البداية قبل الانتقال إلى مطالب أخرى أكثر جذرية؟
**بالنظر إلى التطورات الأخيرة المرتبطة بحركة "جيل زد" في المغرب، يطرح بعض المراقبين تساؤلات مشروعة حول الخلفيات المحتملة لهذا الحراك، خصوصا في ظل السياق الوطني الحساس الذي يعيشه المغرب. فبينما تقدم الحركة نفسها على أنها اجتماعية سلمية، تركز على مطالب يومية تتعلق بالصحة والتعليم والعدالة ومحاربة الفساد، ظهرت مؤشرات تثير الشكوك حول احتمال وجود محاولات اختراق أو توجيه من أطراف داخلية أو خارجية معروفة بعدائها للنظام، وتسعى إلى زعزعة الاستقرار وضرب الثقة بين المواطنين ومؤسساتهم. هذه الشكوك تعززها عدة عناصر متزامنة، أبرزها تكرار الحملات الإعلامية الموجهة ضد المغرب، مثل سلسلة «جبروت 1، 2، و3»، وتقارير صحفية دولية مثيرة للجدل، إلى جانب بروز حركة "جيل زد" في توقيت بالغ الحساسية، حيث ينتظر المغرب تقريرا أمميا حاسما حول قضية الصحراء المغربية، ويستعد لتنظيم كأس إفريقيا للأمم، وهي مناسبات ذات رمزية وطنية ودولية كبيرة. هذا التزامن قد لا يكون بريئا، ويطرح تساؤلات حول ما إذا كانت بعض الجهات تحاول استغلال الحراك الشبابي لخلق حالة من التشويش الداخلي. ومن بين المؤشرات التي أثارت الجدل أيضا، إعلان بعض نشطاء "جيل زد" عن فتح باب التبرعات المالية عبر العملات الرقمية مثل "البيتكوين"، وهي وسيلة يصعب تتبع مصادرها، وتستخدم غالبا من قبل جهات خارجية. هذا التوجه المالي، الذي لا يخضع لأي رقابة وطنية، يثير مخاوف من إمكانية توجيه الحركة أو تمويلها من أطراف لا تنتمي إلى النسيج المجتمعي المغربي، وقد تكون لها أجندات تتجاوز المطالب الاجتماعية المعلنة.
في هذا السياق، يبقى من الضروري التمييز بين المطالب المشروعة التي تعبر عن معاناة حقيقية يعيشها الشباب المغربي، وبين محاولات التوظيف السياسي أو الإعلامي التي قد تفرغ الحراك من مضمونه الوطني، وتحوله إلى أداة في صراعات لا تخدم مصلحة البلاد. فالمغرب، وهو يواجه تحديات إقليمية ودولية، بحاجة إلى حوار داخلي مسؤول، ينصت إلى صوت الشباب، ويحصن الحركات الاجتماعية من أي اختراق أو توظيف خارجي يهدد استقرار الوطن ووحدته.
يمكن النظر إلى توجيه المطالب نحو الملك وتجنب الخوض في القضايا السياسية البنيوية كاستراتيجية ذكية تهدف إلى: كسب حاضنة شعبية واسعة في البداية، تفادي التصنيف أو القمع المبكر، التموقع داخل الشرعية الرمزية، التحضير التدريجي لمطالب أعمق... ومن المهم أيضا عدم التسرع في الحكم، فالحركات الشبابية مثل "جيل زد" تتطور بسرعة، وغالبا ما تعيد تشكيل خطابها حسب التفاعل الشعبي والرد الرسمي. لذلك، يبقى السؤال مفتوحا: هل ستظل الحركة اجتماعية إصلاحية أم ستتحول لاحقا إلى قوة سياسية تطالب بتغيير هيكلي؟
*ألا يمكن الحديث عن اختراق خارجي لخدمة أجندات أجنبية معادية للمغرب؟
**رغم أن المطالب المرفوعة من قبيل الصحة، التعليم، مكافحة الفساد مشروعة ومجتمعية بامتياز، إلا أن بعض التحليلات ترى أن التحول السريع من احتجاجات سلمية إلى مظاهر عنف قد يكون نتيجة تدخل خارجي.
في غياب تقرير رسمي، ذهبت بعض التحاليل إلى الخوض في افتراض ضلوع جهات خارجية، وعلى رأسها النظام الجزائري، يشتبه في أنها تحرض وتوجه بعض المحتجين عبر وسائل التواصل الاجتماعي، بهدف زعزعة استقرار المغرب. إضافة إلى ذلك تم رصد خطاب عنيف وتسريبات غير مؤكدة وإشاعات وأخبار كاذبة، مما يشير إلى محاولات تضليل إعلامي واستغلال المطالب الاجتماعية لأغراض سياسية.
في السياق نفسه يمكن التساؤل عن كون السبب الرئيسي لاختيار حركة "جيل زد 212" استعمال لمنصات مثل ديسكورد وتلغرام هو التخفي، فهكذا منصات يصعب تتبعها، مما يثير مخاوف من التمويل أو التوجيه الخارجي.
التوقيت له أيضا دلالة لا يمكن تجاهلها، لذلك، وفي قراءة أولية يمكن الاستنتاج أن احتجاجات جيل زد 212 في المغرب تبدو في جوهرها اجتماعية وحقوقية، لكنها ليست بمنأى عن محاولات الاختراق أو التضليل أو الاستغلال الخارجي، خاصة من أطراف إقليمية لها خلافات سياسية مع المغرب (وربما أيضا من جهات داخلية ضد النظام كجماعة العدل والإحسان). هذا لا ينفي شرعية المطالب، لكنه يسلط الضوء على ضرورة اليقظة الأمنية والإعلامية.
*كما عاينت ذلك «الأحداث المغربية»، تساءل أحد الأعضاء متبرما من انحراف الحركة عن مطالبها الأولى.. هل هناك فرق بين «السرفور» والحركة. هل هناك فرق فعلا؟
**فعلا، بدأ يظهر تمايز واضح بين ما يعرف بـ«السرفور» الرقمي، الذي انطلقت منه شرارة التنظيم، وبين «الحراك» الميداني الذي بات يعبر عن مطالب الشباب في الشارع. هذا التمايز ليس مجرد اختلاف تقني، بل يعكس تحولا في طبيعة الحركة، وفي طريقة اتخاذ القرار، وفي مضمون الشعارات المرفوعة. السرفور، وهو فضاء رقمي على تطبيق Discord، يعد نقطة الانطلاق الأولى للحركة، حيث يجتمع الشباب للنقاش، صالات النقاش الخاصة، التصويت، وتحديد خطوات التحرك. لكنه لا يمثل الحركة كلها، بل هو مجرد وسيلة تنظيمية داخلية، وقد يشهد تباينا في الآراء والمواقف. بعض الأعضاء داخل هذا الفضاء بدأوا يعبرون عن تبرمهم من ما وصفوه بـ«انحراف» الحركة عن أهدافها الأصلية، التي كانت تركز على الصحة والتعليم، نحو شعارات سياسية وتصعيد غير متفق عليه، مثل المطالبة برحيل رئيس الحكومة أو تبني خطاب أكثر حدة.
في المقابل، فإن «الحركة» بمعناها الميداني هي التعبير الشعبي الخارجي عن مطالب الشباب المغربي. بدأت رقمية، ثم انتقلت إلى الشارع، وتوسعت لتشمل احتجاجات في أكثر من 11 مدينة. مطالبها الأساسية اجتماعية بامتياز: إصلاح التعليم، تحسين الخدمات الصحية، محاربة الفساد، وتوفير فرص العمل. وهي حركة غير مركزية، بلا قيادة واضحة، ولا انتماء حزبي، ما يجعلها عرضة للتأثر بعوامل خارجية، سواء من الإعلام أو من ردود فعل السلطات، أو حتى من محاولات اختراق رقمية.