هناك لحظات في تاريخ المجتمع تبرز فيها ملامح لم تكن ظاهرة بوضوح، شرخ بين الشارع ومؤسسات الدولة، فراغ تواصلي تغذيه الهواجس، وموجة غضب تحول المطالبة إلى خراب. من بعيد تبدو الصور مألوفة، أطفال يقفون في الصفوف الأمامية، سيارات مشتعلة، شباب يحولون الشارع إلى ملعب للتدمير، ومشاهد تعيد إلى الذاكرة ليل الفوضى لا سحر التغيير. هذه ليست فقط وقائع محلية، هي بطاقة تعريف لا نحب أن تعرض عنا في الخارج.
ما ينغص المشهد أكثر هو حقيقة أن نسبة كبيرة من المشاركين في أعمال العنف قاصرون، وهذه معلومة لا يجب أن تمر كرقم إخباري بارد، بل كجريمة أخلاقية واجتماعية تستلزم مساءلة حقيقية عن من يسخرهم ومن يوجههم وإلى أي غايات، إذ ليس من الشجاعة أن تستخدم براءة الأطفال كوقود لشعارات هاتفية، هذه الحقيقة أعلنتها الجهات الرسمية وبعض التقارير، ويجب أن تكون نقطة انطلاق لإعادة تقييم كل ما يحدث في الفضاء العام.
ثم هناك سلوك آخر يؤثر في صورتنا بالخارج، وسائل إعلام وقنوات يسعى بعضها إلى تأجيج الوضع وتسليع المشاهد العنيفة، وصعود أصوات خارجية ترحب وتهيج وتسجل المشهد باعتباره نصرا رمزيا، ففرحهم هذا لا يفرق بين خراب ونضال، هذا الاحتفاء الخارجي لا يضيف مشروعية للمطالب، بل يستخدم كوقود للانقسام وللتحامل على بلد له مؤسساته وسياقاته، ويجعل من احتجاج قد يكون مشروعا أحيانا فرصة للاستثمار الإقليمي والسياسي.
googletag.cmd.push(function() { googletag.display('div-gpt-ad-1667386526530-0'); });
الأسوأ أن بعض الحسابات والصور في الخارج صورت وكأنها مهرجان للتخريب، شعوب تتابع وتفرح بما يحدث عن بعد، قنوات تبث بأعصاب مرتاحة وتعلق، وناشطون دوليون يدلون بتصريحات لا تراعي مبدأ الحياد أو احترام السيادة، وهذا يفتح بابا خطيرا، هل التضامن مشروع عندما يتحول إلى تحيز؟ أم أنه يتجاوز دوره الأخلاقي إلى تدخل رمزي قد يفسر خطابه على أنه تشجيع للفوضى؟ هنا تكمن المفارقة، في أن دفاع البعض عن "الحرية" قد يبدو، من منظور آخر، تشجيعا على حرق بيت الجار.
ثم إن التحامل المسبق على المغرب أو تصوير الأوضاع بنظارات أيديولوجية جاهزة يفقد الخطاب الإنساني معناه، لأن الدفاع عن الحرية في بلد لا يبرر المس بكرامة بلد آخر، من حق توكل كرمان وحتى أخواتها، أن تعبر عن رأيها، لكن من واجبها أيضا أن تدرك أن الاحترام المتبادل بين الشعوب شرط أساسي لأي نضال حقوقي صادق.
لذلك، يجب أن نضع أمام أعيننا أن صورة المغرب في الخارج ليست رفاهية بل رصيد استراتيجي، رصيدنا يؤثر في اقتصادنا، في استثماراتنا، وفي قدرة مؤسساتنا على إدارة الأزمات. حين تعرض شوارعنا كاستعراض للفوضى، فإن الرسائل المبسطة تنتشر أسرع من تفسير هادئ لسياق الاحتجاجات ومطالبه، وهنا يتضح درس آخر: التواصل ليس ترفا بل أولوية.
العجرفة، الصمت، أو الأخطاء التواصلية -أيا كانت مصادرها- تترك فراغا تملأه روايات خارجية، وتخرج ليلا جحافل من "سراق الزيت" الرمزيين الذين ينهبون صورة البلد قبل ممتلكاته.
الخلاصة ليست دعوة لقمعٍ أعمى ولا إلى تجاهل لمطالب الشباب، بل نداء إلى النضج، فتنظيم احتجاجات سلمية، حماية القاصرين، مساءلة من يستغلون الفوضى، ومراجعة جذرية لأساليب التواصل الحكومي والمؤسساتي.
دعونا نعيد للمشهد معنى الاحتجاج المسؤول، ونعيد للمجتمع ثقافة التعبير التي تحميها العقلانية لا تبتذلها الهتافات العمياء، وبهذا نتصدى لسراق الزيت، لا بصائد وحسب، بل بإصلاح يجعل الشارع آمنا لحقوق الناس وكرامة بلدنا في آن معا.
الأخطر أن هذه الممارسات تقدم أحيانا في شبكات التواصل كـ"بطولات"، في حين أنها في الحقيقة جرائم تشوّه صورة المطالب الشعبية وتمنح الدولة المبرر القانوني والأمني للرد الصارم.
إن المغرب، مثل أي دولة تسعى إلى الإصلاح ضمن الاستقرار، يحتاج إلى ثقافة احتجاجٍ راشد ومسؤول، لا إلى مشاهد دمار تعيد إلى الأذهان فوضى الجوار العربي، فبين الاحتجاج والاحتراب خيط رفيع، يجب أن نحرسه بالعقل، لا أن نحرقه بالحماس.
*إعلامي بقناة MEDI1TV