يختزن المغرب رصيدا حضاريا وإنسانيا استثنائيا جعله في صدارة الدول العربية والأفريقية على مستوى عدد المواقع المدرجة ضمن قائمة التراث العالمي لليونسكو. فمن فاس ومراكش وتطوان والرباط والصويرة، إلى موقع وليلي الأثري وقصر آيت بن حدو وقصبة التوريرت، يتشكل فسيفساء غني يربط الماضي بالحاضر، ويعكس العمق التاريخي والبعد الإنساني للمملكة.
الخبير في الثقافة والفنون الدكتور أحمد الدافري، وفي حوار مع قناة ميدي 1 تيفي، أكد أن هذا التنوع الحضاري هو ما يمنح المغرب مكانته الاستثنائية في المنطقة، إذ تتقاطع فيه الحضارة الأمازيغية والرومانية والإسلامية والأندلسية والمتوسطية، مع عمق إفريقي أصيل.
الدافري أبرز أن المغرب يتصدر الترتيب عربيا بتسعة عناصر مدرجة ضمن لائحة التراث العالمي، ولا يضاهيه في أفريقيا سوى إثيوبيا، وأن هذا الرصيد التاريخي ليس مجرد مبان حجرية أو أطلال صامتة، بل مختبرات حية تجذب الباحثين والأكاديميين من مختلف أنحاء العالم. فمن وليلي إلى لكسوس قرب العرائش، ومن مكتبات فاس العتيقة إلى مخطوطات تطوان والرباط، يشكل التراث المغربي مادة علمية خصبة يتم الاشتغال عليها عبر شراكات جامعية دولية ووطنية، ما يعمّق البحث ويكشف أسراراً جديدة عن تاريخ المغرب العريق.
googletag.cmd.push(function() { googletag.display('div-gpt-ad-1667386526530-0'); });
وأبرز الدافري أن هذا الإرث يواجه تحديات كبرى بفعل التغيرات المناخية والزلازل والرطوبة، ما يستدعي تدخل التكنولوجيا الحديثة لحمايته باستعمال تقنيات المسح الضوئي والليزري ثلاثي الأبعاد، التي تتيح إنشاء نسخ رقمية دقيقة يمكن العودة إليها في حال حدوث تلف، إضافة إلى تقنيات الاستشعار عن بعد التي تراقب مستوى الرطوبة والملوحة لحماية المباني من التآكل قبل وقوع الضرر.
وأبرز الدافري أن التراث لا يقتصر على البعد المادي، لذلك فإن وزارة الشباب والثقافة والتواصل تعمل على برامج فنية وثقافية لإحياء الفضاءات التاريخية من خلال عروض كبرى مثل "نوستالجيا عاطفة الأمس"، التي تسعى إلى تقريب الشباب من ذاكرته التاريخية وربط الماضي بالحاضر، وأن هذه المبادرات تساهم في تثمين المعالم وتحويلها إلى قاطرة للتنمية المستدامة، من خلال دعم الحرفيين والصناع التقليديين وتأهيلهم بوسائل ترويج حديثة وتمكينهم من مهارات التواصل باللغات الأجنبية.
وشدد الدافري على ان المغرب، بمدنه الإمبراطورية الأربع: فاس ومراكش ومكناس والرباط، يقدم صورة متكاملة عن تنوع أنماط العيش والثقافة والطبخ والفنون، ففي فاس نقرأ عبق الحضارة الإدريسية والمرينية، وفي مكناس نتأمل آثار السلطان مولاي إسماعيل، أما مراكش فتعكس اللمسة المرابطية والموحدية، فيما تشهد الرباط على امتداد تاريخي يصل إلى العصر العلوي.
ويحتل فن العمارة المغربية يضيف الدافري مكانة مركزية في هذا التراث، بفضل الصانع التقليدي المغربي الماهر في الزليج والرخام والخشب والجبس. هذه المهارات التي يتم تناقلها عبر مدارس التكوين المهني المتخصصة، أسهمت في جعل العمارة المغربية مرجعاً عالمياً تتلاقح فيه التأثيرات الأمازيغية والأندلسية والمتوسطية في لوحة معمارية فريدة.
وخلص الدكتور أحمد الدافري الى أن التراث المغربي ليس فقط ذاكرة محفوظة، بل رصيد متجدد يشكل جسرا بين الماضي والحاضر، ورافعة للتنمية المستدامة والانفتاح الثقافي، وبين حماية المواقع الأثرية بالتكنولوجيا الحديثة، وتثمين التراث اللامادي عبر مبادرات إبداعية، يسير المغرب بخطى ثابتة نحو صون ذاكرته الجماعية وتقديمها للعالم كأحد أعمدة الحضارة الإنسانية.