هل انتهى الوهم الجيوسياسي لطهران؟

بقلم: د. سالم الكتبي الأحد 29 يونيو 2025
No Image

لم تعد المواجهة الإيرانية ـ الإسرائيلية خلال الشهر الماضي يونيو 2025 حدثًا عابرًا في سجل الصراع المزمن، بل تحولت إلى لحظة كاشفة لمدى الانهيار الذي تعانيه إيران كنظامٍ ومشروع، ما كان يُروَّج له لسنوات كـقوة إقليمية كبرى تهاوى خلال اثني عشر يوماً فقط، تاركًا خلفه منظومة مهترئة، وجمهوراً محبطاً، وأوهاماً سقطت تحت وابل من الحقائق العسكرية والاقتصادية والسياسية.

هذه الحرب لم تنشب فجأة. فمنذ اغتيال قاسم سليماني في 2020، سلكت طهران طريق التصعيد عبر ميليشياتها في العراق وسوريا ولبنان واليمن، متوهّمة أنها تحاصر إسرائيل من الجهات الأربع، ولكن تل أبيب لم تنتظر، بل عملت بصمتٍ على تطوير أدواتها الاستخباراتية والعسكرية، حتى جاءت اللحظة التي قلبت الطاولة بضربة استباقية استهدفت قلب المشروع النووي، وأجهزت على مراكز القيادة والسيطرة، لتكشف عن عمق التصدع في النظام الإيراني.

اللافت في هذه الجولة أن إسرائيل لم تكن فقط صاحبة المبادرة، بل أظهرت قدرة نوعية على حسم الميدان باستخدام أنظمة دفاعية ذكية، تُدار بخوارزميات متقدمة، أبطلت فعالية الصواريخ الإيرانية التي لم تعد أكثر من خردة السلاح الشرقي بأسماء جديدة. بينما كانت طهران تراهن على الترهيب الكمي، كانت تل أبيب تبني على الكفاءة النوعية، وهنا، سقطت كذبة الردع الإيراني بضربة دقيقة وسريعة.

الأخطر أن طهران لم تخسر فقط على مستوى المواجهة العسكرية، بل تلقت ضربة موجعة في عمقها الاقتصادي والاجتماعي، حيث تم استهداف البنية التحتية النفطية أدى إلى شلل في الإنتاج والتصدير، وانهيار الريال كشف عن هشاشة الدولة التي تدّعي القوة بينما شعبها يعجز عن شراء الخبز.

الواقع أن هذه الحرب أماطت اللثام عن مأزق إيران التاريخي، كنظام مهووس بالسيطرة الخارجية، بينما الداخل ينهار، في حين ان فصائل ما يسمى بـ المقاومة المدعومة من طهران فقدت قدرتها على المناورة، وبعضها بدأ يتراجع علنًا.

في المقابل، بدت دولة إسرائيل، رغم حجمها الصغير، كأنها تُعيد تعريف معادلات القوة في الشرق الأوسط، وذلك عبر شراكات ذكية مع دول الخليج، وقدرات تقنية متقدمة، نجحت في قلب المفهوم التقليدي للقوة العسكرية، وباتت محورًا أمنيًا إقليميًا صاعدًا، يحسب له الحساب من غزة إلى طهران.

أما الولايات المتحدة، فقد أدارت المعركة من بعيد، مستفيدة من الفوضى التي خلّفتها طهران، ومن قدرة دولة إسرائيل على تحقيق الأهداف الاستراتيجية من دون تدخل مباشر، إلا فيما ندر، إنها عودة صريحة لمعادلة الإضعاف دون إسقاط، حيث يُسمح للنظام الإيراني بالاستمرار، لكن على وقع الهزائم المتراكمة، ليبقى كياناً مُنهكاً عاجزاً عن تصدير ثورته أو فرض إرادته.

اليوم، يقف النظام الإيراني أمام انهيار ثلاثي الأبعاد، لديه شرعية متآكلة في الداخل، مع هيمنة متراجعة في الخارج، وبرنامج نووي مدمَّر، ذلك المشروع الذي استغرق أربعة عقود من الإنفاق والسيطرة والقمع، والذي بات اثرا بعد عين، وإعادة تلك المنشآت ستعيد الضربات القاسية والمهينة مرة  اخرى، والادهى ان لا دعاية قادرة على إقناع الشعب بأنّ العدو الخارجي هو السبب.

الشرق الأوسط يشهد إعادة تشكيل، ليس بفعل مؤتمرات أو تفاهمات سياسية، بل بفعل فشل المشاريع القائمة على الطائفية والتوسع بالقوة، وإيران التي أرادت تصدير نموذجها، تجد نفسها اليوم شبه منبوذة من شعبها، ومعزولة عن بيئتها، وتبحث عن مخرج بأي ثمن.

وفي خضم هذا التحول، تبرز  دولة إسرائيل كقوة مبادرة لا تنتظر إذناً لتأمين حدودها، بل تصوغ تحالفات، وتبني معادلات أمنية جديدة، على حساب نظام أثبت أنه بات عبئاً على نفسه وعلى من حوله.

لكن الحقيقة الجارحة أن إيران لم تُهزم في معركة عسكرية فحسب، بل انكشفت مفضوحة كنموذج سياسي وأمني واقتصادي فاشل، خسر مصداقيته وكرامته داخلياً وخارجياً، فهذا نظام أنفق مئات المليارات على مشاريع الهيمنة والتوسع، بينما شعبه يتضور جوعاً، لا يتملك اليوم سوى أن يتوارى خلف شعارات المقاومة والنصر الإلهي المبين والتي فقدت معناها وأصبحت مزدراه. ومن ناحية أخرى نجد ان الاذرع ومليشيات النظام في الخارج تتهاوى تحت وطأة المطرقة الإسرائيلية واغتيال قياداتها، والعمق الاستراتيجي لإيران انتهكت سيادته وحرمته، وأصبح ثقل إيران الإقليمي يتبدد أمام أعينها، ليس لأن خصومها أقوى فقط، بل لأنها نظام ينخره الفساد، وتعميه الأوهام.

الشرق الأوسط لا ينتظر أحداً، فمن لم يدرك أن منطق الهيمنة والميليشيات قد بدأ يخفت، فسيدفع ثمن عناده باهظاً من سيادته واستمرار بقاءه، وإيران التي كانت تتوهم أنها قوة لا تُقهر، تبدو اليوم أقرب ما تكون إلى نموذج الدولة المأزومة التي تحترق بنار مغامراتها. لقد بدأت مرحلة ما بعد إيران – لا بالمعنى الجغرافي، بل بمعنى زوال تأثيرها وهيمنتها، وهذه الحقيقة ستكون أوضح في كل محطة مقبلة، مهما حاول النظام الإيراني إنكارها.