يلاحظ من يتابع المشهد السياسي في الدار البيضاء منذ سنة 2002 أن نفس الوجوه والأسماء تتكرر في كل محطة انتخابية، بنفس العائلات،و بنفس الرموز التي احتكرت المشهد لعقود، وكأن الزمن السياسي في هذه المدينة الكبرى قد تجمد.
ففي كل مرة تغير الأحزاب برامجها وشعاراتها،و تغير العبارات وتبدل الألوان، ويبقى شيء واحد عصي على التغيير: المرشحون والمسؤولون الحزبيون، والنتيجة لا تتغير ولا هم يحزنون: استمرار الركود، استمرار الاختلالات، واستمرار خيبات الأمل.
فالأحياء الشعبية، من درب السلطان إلى سيدي مومن، تعرف جيدا هؤلاء الذين يأتون مرة كل خمس سنوات ليعدوا الناس بالتغيير وبفرص الشغل وبالبنيات التحتية، ثم يختفون مباشرة بعد الفرز الأخير للأصوات، وهو نفس السيناريو الذي يتكرر بالأحياء الراقية، مثل أنفا والمعاريف التي لم تنجو، بدورها، من هذا الجمود، رغم اختلاف حاجياتها وانتظاراتها.
googletag.cmd.push(function() { googletag.display('div-gpt-ad-1667386526530-0'); });
والنتيجة أن المدينة تبدو رغم بعض المشاريع الكبرى هنا وهناك، وكأنها لا تتحرك، أو بالأحرى تدور في حلقة مفرغة من تدبير هش، ومجالس متعاقبة تختلف فقط في الأسماء لا في الجوهر ولا في الممارسة.
والمفارقة أن الأحزاب تعيد تدوير نفس الوجوه؛ برلمانيون قدامى يتحولون إلى رؤساء جماعات، منتخبون جماعيون يصبحون مستشارين في الجهة، وزراء سابقون يعودون ليتزعموا اللوائح الانتخابية محليا، في حلقة مفرغة لا تجديد فيها، لا دماء جديدة، لا كفاءات قادرة على فك عقدة التدبير الحضري لهذا القطب الاقتصادي الهام.
كل هذا يحدث في ظل صمت جزء كبير من النخب الشابة التي اختارت الهجرة إلى الخارج أو الانزواء في الصمت، بعدما فقدت الثقة في قدرة هذا النظام الحزبي المحلي على فتح المجال أمامها.
حيث أصبحت الدار البيضاء التي كانت حلم الأجيال، وحاضنة المشاريع الكبرى في الستينيات والسبعينيات، مدينة تعاني من الفوضى المرورية، العشوائيات، ضعف الخدمات الصحية والتعليمية، وتدهور جودة العيش، رغم أن الملك تدخل شخصيا أكثر من مرة لدق ناقوس الخطر بخصوص أعطاب الدار البيضاء، إلا أن المنتخبين المحليين ظلوا يتعاملون مع الأمر وكأنه لا يعنيهم، مستفيدين من وضعية التكرار التي تضمن لهم البقاء في مناصبهم دورة بعد أخرى.
من 2002 إلى 2025، لم تعرف المدينة تغييرا حقيقياً في نخبها السياسية، ولا في طريقة تدبير شؤونها، فمشاريع مثل “كازا نيرشور” و”كازا ترانسبور” و”الطريق الساحلية” تحولت إلى عناوين لأزمات أكثر منها لنجاحات، فيما ظلت الملفات الاجتماعية الكبرى معلقة: السكن، النقل، الشغل، التلوث، الأمن الحضري... وبين هذا وذاك أصبح المواطن البيضاوي لا ينتظر من الانتخابات سوى تجديد واجهات الملصقات الدعائية، وتغيير صيغ الخطاب، مع يقين داخلي أن نفس الأسماء ستعود، ونفس النتائج ستتكرر.
وفي الوقت الذي تغيرت فيه النخب السياسية في مدن كثيرة داخل وخارج المغرب، بل حتى في بعض الدول المجاورة التي عرفت حركية سياسية وإدارية ملحوظة، ظلت البيضاء أسيرة منظومة مغلقة؛ وجوه قديمة صارت تعرف كل تفاصيل اللعبة، تحمي مصالحها وتعيد إنتاج ذاتها، غير عابئة بالتحولات المجتمعية ولا بالأجيال الجديدة التي تبحث عن صوت مختلف ورؤية مختلفة.
هذا التكلس في النخب البيضاوية يعكس مشكلتين متلازمتين: فمن جهة هناك غياب الإرادة الحزبية الحقيقية في تجديد دماء التنظيمات المحلية، ومن جهة أخرى، ضعف الضغط الشعبي والمجتمع المدني الذي تحول معظمه إلى ملحقات انتخابية، أو إلى كيانات تبحث عن التمويل والدعم بدل الفعل والتأثير.
وهو ما يجعل من مدينة بحجم البيضاء تجد نفسها، بعد أكثر من عقدين من الزمن، في وضعية غريبة: مدينة تنبض اقتصاديا بمشاريع كبرى، لكنها عاجزة عن أن تفرز نخبا سياسية وإدارية جديدة قادرة على تحقيق الإقلاع الحقيقي، مقابل سيطرة نفس الوجوه، نفس الأسماء، نفس العقليات، ونفس السياسات الترقيعية التي لم تفعل سوى تعميق الأعطاب وتعقيد الحلول الممكنة.
قد يكون من المبالغة القول إن الزمن السياسي في الدار البيضاء متوقف منذ 2002، لكنه توصيف لا يخلو من الصحة، فقد تعاقبت الحكومات، وتغيرت الوزارات، ودخل المغرب عهدا دستوريا جديدا، لكن في الدار البيضاء ظل كل شيء على حاله: مدينة كبرى يديرها صغار السياسة، وفضاء حضري ضخم تحكمه عقليات تقليدية عفا عنها الزمن.
ليبقى السؤال معلقا إلى إشعار آخر: متى ستستفيق الدار البيضاء من سباتها السياسي؟ ومتى ستكسر هذه الحلقة المفرغة من تدوير نفس الوجوه التي لم تعد قادرة على تقديم أي شيء جديد لهذه المدينة العظيمة.