قصة حوار!

بقلم: المختار لغزيوي الجمعة 06 يونيو 2025
b0c9a127-8e1e-45c2-ab44-29ad026f7927
b0c9a127-8e1e-45c2-ab44-29ad026f7927

أعدنا يوم الأربعاء الماضي، بمناسبة حدث وفاة الرجل الاستثنائي عبد الحق المريني، رحمه الله، إعادة نشر حوار أجرته جريدتنا «الأحداث المغربية»، مع الراحل الكبير في عددها الصادر يوم 10 يونيو 1999، أي منذ 26 سنة خلت.

تاريخ العاشر من يونيو 1999، يعني أقل من سنة على بداية صدور «الأحداث المغربية»، (التي صدر أول عدد منها يوم 22 أكتوبر 1998) وفقط قبل شهر وثلاثة عشر يوما من وفاة المغفور له بإذن الله تعالى الملك العظيم الحسن الثاني تغمد الله ثراه.

كانت «الأحداث المغربية» يومها تتلمس خطواتها الأولى في المشهد الإعلامي المغربي، لكن مؤسسها سي محمد البريني ومن كانوا معه كانوا قد شرعوا في فهم مسألة أساسية وهامة: هناك مكان حقيقي لهذه الجريدة داخل المشهدين الإعلامي والسياسي المغربيين.

جريدة أتت في لحظة خاصة من نوعها لكي تغير طريقة نظر المتلقي المغربي للعمل الإعلامي، ولكي تجيب على أسئلة عديدة، ولكي تحرك بركا راكدة أكثر، ولكي تعلن عن نفسها واحدة من وسائل إعلام المغرب في سنوات الألفينات التي كانت تنتظر الجميع.

في هاته الأجواء تطوع محب من محبي هذه الجريدة الكثر، ممن شجعوها منذ البدء لكي يطلب هذا الحوار/ الحدث مع سي عبد الحق المريني رحمه الله، والذي كان حينها يشغل منصب مدير التشريفات الملكية والأوسمة.

استأذن سي عبد الحق وهو ابن الدار من سيد الدار والبلد، المغفور له الحسن الثاني رحمه الله، من أجل إعطاء حوار لهذه الجريدة التي كانت جديدة آنذاك. فكيف أتى رد الملك العبقري الراحل؟

منح المغفور له الحسن الثاني رحمه الله بكل عبقرية وكرم وحكمة الإذن، وأشار إلى سي عبد الحق المريني رحمه الله أن يكون «كيسا» في الحوار.

لماذا كانت نصيحة «تكايس» الملكية هاته لسي عبد الحق؟

لأن الجريدة التي كانت جديدة حينها، والتي أثارت انطلاقتها الناجحة كلام الحاسدين، كانت تواجه إشاعة اعتبارها ناطقة باسم تيار من الاتحاد الاشتراكي، هو تيار سي محمد البازعي ضد تيار من كان رئيس الحكومة في تلك اللحظة الفقيد الكبير سي عبد الرحمان اليوسفي رحمه الله.

ومع علم المغفور له الحسن الثاني بحقيقة الأمر، وعدم تبعية «الأحداث المغربية» لهذا التيار أو ذاك في هذا الحزب أو الآخر، إلا أن العبقرية الحسنية فطنت إلى أن صدور الحوار على صفحات «الأحداث المغربية» قد يستغله الحاسدون والحاقدون بشكل أو بآخر لكي يوهموا السي عبد الرحمان اليوسفي أن هناك تفضيلا لهذا التيار على الآخر، خصوصا وأن خروج مدير التشريفات الملكية والأوسمة في حوار مع جريدة يومية لم تكمل عامها الأولى ليس حدثا هينا أو عابرا لا إعلاميا ولا سياسيا.

وبالفعل كان سي عبد الحق المريني رحمه الله في الحوار، كيسا، عالما، عارفا بما يقول، قادرا على السير فوق مختلف طرق السؤال الوعرة بحكمة الأستاذ الجامعي، وعمق المؤرخ الدارس، وفطنة وانتباه المشتغل في التشريفات الملكية قرب الملك العبقري الحسن الثاني رحمه الله.

كان حوارا للتاريخ، فهم معه من يستطيعون الفهم أنه من الضروري أخذ هذه الجريدة الصاعدة بعين الاعتبار، والاقتناع أنها قادمة نحو المستقبل بنفس مغربي ومهني رصين يعرف ما يفعل.

وقد أكدت الأيام الأمر عندما خرج بعد ثلاث سنوات من هذا الحوار أول حوار مع يومية مغربية لمستشار صاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله، فؤاد عالي الهمة، على صفحات «الأحداث المغربية»، دلالة تقدير وتشريف ظلت هذه الجريدة تعتبره وساما على صدرها، مع تعاقب السنوات والظروف والمسؤولين عن نشرها وتسييرها.

وإذا كان الحوار مع السيد فؤاد عالي الهمة معروفا من ناحية الصحافي الذي أنجزه (زميلنا مصطفى كنيت)، فإنه يبقى لنا الآن أن نتذكر من كان صاحب الحوار/ الحدث مع سي عبد الحق المريني، ما دام الحوار قد حمل توقيعا مستعارا (عبد الله الجعيدي) لأسباب عدة لم تعد قائمة الآن، ولا تخفى على حصيف.

يتعلق الأمر بواحد من أبناء الصحافة ومحبيها، وبرجل ظل يشتغل في الظل خدمة للمهنة وللبلد، وهو زميلنا وصديقنا وأستاذنا عبد الإله التهاني، مدير الاتصال الأسبق في وزارة الاتصال، وأحد أكبر المطلعين على عوالم الصحافة والإعلام والنشر، والصحافيين والإعلاميين والناشرين في بلادنا منذ سنوات وحتى الآن.

لماذا نكشف الآن عن اسم الصحافي، الذي أنجز الحوار منذ 26 سنة مع سي عبد الحق المريني رحمه الله؟

استجابة لواجب الذاكرة أولا، خصوصا وأن الظروف التي كانت تمنع حينها نشر الاسم الحقيقي لم تعد قائمة، ثم قياما بعملية تنشيط تبدو لنا ضرورية لذاكرة صحفية وسياسية محلية ضعفت، وأصابها وهن كبير، ومسها صدأ أكبر، وأصبحت لفرط عحزها قادرة على الخلط بين العناوين، والمقارنة بين الأسماء، ووضع «ولاد عبد الواحد» المشاهير كلهم في سلة «كلهم واحد» الظالمة.

ثم إننا في عصر الافتراضي، والثقة المزعومة بالهواتف، ذكيها والغبي، ومن بيننا من يسعى - لأغراض في نفس أكثر من يعقوب - أن يقنع الناس أن الصحف الحقيقية فقدت قيمتها، وأن الصحافة بكل أجناسها ووسائل اشتغالها (تلفزيونات وإذاعات وجرائد ومجلات ومواقع، رسمية كانت أم خاصة) لم تعد تصلح لشيء، ويقترح علينا من باب ادعاء مبالغ فيه، وغرور مثير للشفقة أن نكتفي بالنموذج البدائي الذي يتحدث دون ضوابط، ودون معرفة، ودون التزام بشيء.

عذرا، هناك تاريخ، وهناك حكايات من هذا التاريخ، وهناك أمور عديدة ربما لا يدركها الوافدون الجدد، ولا يعرفون عنها إلا القليل لئلا نقول اللاشيء، ومن واجب من عبروا من الوقت السابق أن يشهدوا شهادة الحق قبل العبور الأخير، تبيانا للحقيقة، وتوضيحا لكثير الملتبسات، ثم مساعدة لمن أتوا فيما بعد ويريدون إكمال المسير والمسار على معرفة بعض الأشياء التي لابد من معرفتها.

بدأناها مع قصة هذا الحوار الشيق والاستثنائي مع الرجل الاستثنائي الذي فقدناه، سي عبد الحق المريني رحمه الله، ومن يدري، لعلنا نحكي لاحقا، أو يحكي غيرنا قصص حوارات وتحقيقات وروبورتاجات ومواد مهنية كثيرة تستحق الحكي لئلا يقال في يوم من الأيام إن الصحافة في المغرب، وفي إفريقيا، وفي العالم، بل وفي الكون كله ولدت وعاشت وماتت مع من يدعون، بكل غرور، نظير هذا الكلام المضحك حد البكاء الأليم.