"أحداث ومواقف" للراحل المهدي العلوي.. ما بين تاريخ متاح وسري

بقلم: جمال المحافظ الأربعاء 04 يونيو 2025


 "أحداث ومواقف" مذكرات الدبلوماسي والسياسي المهدي العلوي الذي توفي في ثالث ماي 2025، ووري الثرى اليوم بالرباط، تتجاوز إلى حد ما مقولة، أن تكتب سيرة ذاتية، كأن تسير على بيض، تخشى أن يتهشم أسفل قدميك، في بلد مثل المغرب تصعب فيه "السياقة" في منعرجات السياسة والدبلوماسية.

من هكذا منطلق يبدو أن المهدي العلوي، عمل جهد المستطاع والمتاح، أن يتفادى كما هو معروف في الكتابة التقليدية " القراءة الانتقائية للماضي" ، فتجربة الكتابة التاريخية في الوقت الراهن تعرف تجديداً، وتطوراً على مستوى الممارسة المنهجية والمفاهيم، خاصة بالرجوع إلى الأسئلة المطروحة، وإلى نقط الاهتمام وتأويل المعلومات.

كانت للمهدي العلوي قيد حياته، في مؤلفه ( أحداث ومواقف )، " القدرة الإيجابية على تدوير الحقيقة التاريخية"، كما يرى البعض، وإعادة إنتاجها من زاوية مختلفة تماماً عن الطرح الآيديولوجي لأوجه الصراع المختلف، من خلال استحضاره الكثير من التفاصيل والشهادات والأحداث التاريخية منذ استقلال المغرب سنة 1956 إلى نهاية الألفية الثانية، وهي تعد مرحلة فارقة طبعت تاريخ المغرب المعاصر.

لقد ارتأى الفقيد أن يسرد هذه الأحداث والوقائع في مؤلفه بـ"خطاب هادئ وخالٍ من التحيز والانفعال، وبالتالي فمتنه يعد وصفة منضبطة وواعية، فيها الكثير من الاتزان والنقد الموضوعي، وهو ما ذهبت اليه بعض القراءات  في هذا المجال، حينما اعتبرت  أن إصدار  المهدي العلوي، بمتابة " قراءة جديدة للتاريخ النضالي والسياسي، قراءة فيها من الواقعية والكياسة ما يمد جسور التواصل، ويغلب لغة الحوار، ويكرّس مبدأ الشفافية؛ مما يجعل هذه السيرة، تتجاوز الكثير من مثيلاتها من المذكرات والشهادات إلى تنحو منحى المواجهة والصراع".

فحسب سعيد منتسب، معد كتاب " أحداث ومواقف " ، يؤكد في حوار سابق، بأن مذكرات " أحداث ومواقف"، لا تتعلق بالتمييز بين تاريخين: تاريخ متاح وتاريخ سري أو على الأقل مختلف، ولا بتثبيت الأصلي على حساب الحقيقي، ولا بالتحيز للحظي على حساب الكلي"، وهو ما جعل المؤلف، يقدم ذاكرة في غاية الحيوية، لا يعوزها ذلك الألق التي يمنحها أسباب الوجود، ذاكرة رجل متعدد المراكز، وله دور في صنع المغرب الراهن، وفي ضبط تحولاته الكبرى، من موقف الفاعل المشارك جنباً إلى جنب مع أهم السياسيين الذين عرفهم المغرب المعاصر.

وبذلك فإن المؤلف، تمكن من " وضع مسافة صريحة بين التاريخ والنزعة الشُطَّارية (أو البيكارسكية) التي تتحلى بها الشخصية المصارعة والمتمردة وغير المنصاعة للقواعد يقول منتسب الذي أضاف في هذا السياق "نحن لا نقتفي أي (أسطورة) تتطور بنظرة تبتعد عن الالتزام بـ(الحقيقة) بمعناها الأخلاقي، خارج الإشكالات الفلسفية التي يمكن أن يثيرها مفهوم الحقيقة في علاقته بالذاكرة والتاريخ".

إذن، ليس هناك، في هذه المذكرات، أي انجرار أمام المنطق التخييلي الذي يمكن أن يطرحه استدعاء الذاكرة، كما ليس هناك أي اندفاع وراء خلق «الأوديسا الشخصية» الذي يلاحظ في الكثير من مذكرات المغاربة والأجانب، سواء أكانوا أدباء أم سياسيين أم مفكرين أم فنانين.

إن هذا الإغراء الذي تمارسه علينا الذاكرة يخفت بوضوح في كتاب المرحوم المهدي العلوي، رغم أن " حياة صاحبها بحر مضطرب"، كما يوضح معدّ الكتاب، لأن ما منح حرارة لهذه المذكرات، وجعلها ملتزمة بحقيقتها التي تتجاوز حتى صاحبها، بل جعلها تنجح في تجاهل الترابط الممكن بين البيوغرافي والخيالي، لصالح (التاريخ المشترك)، تاريخ جيل صنع الاستقلال، وتقلب على نحو تراجيدي في صراعاته، وقاسى من تجاذبات كل السلط التي أفرزها.

بيد أن الشهادة التاريخية التي يسعى الكتاب إلى تدوينها لا ترتبط بالماضي على نحو يمجد الذات ويعطل الحاضر، بل على العكس تماماً، هناك طموح واضح، لا يخفيه صاحبه، إلى تحرير هذا الماضي من أساطيره المؤسسة، لإعلاء المستقبل عبر القراءة الجيدة لما عاشه المغرب، دون أي تحيز لهذا الطرف أو ذاك. لذا؛ وكما يرى منتسب أن هذا المؤلف يضع نفسه " بوضوح تام ضد الموقف التقليدي الذي يمجد الصراع ويؤبده أو يؤصله؛ سعياً إلى بناء الذات على نقيض ما هو أصلي».

أما الدبلوماسي السابق محمد بنمبارك، الذي يعود إليه الفضل في إقناع المهدي العلوي الذي جاوره حينما كان نائبا أول له سفير بالأردن، بخوض هذه " المغامرة "، لـما يحمله في جعبته حول تاريخ المغرب المعاصر في غاية الأهمية بالنسبة للأجيال الحاضرة والقادمة»، موضحاً أن الفكرة التي تداول معه فيها أسفرت في الأخير عن ميلاد هذا الكتاب الذي يعرض ما عايشه العلوي من أحداث سياسية ودبلوماسية، لكنه وفق " إيقاع حيادي يستند كل شيء إلى الحقيقة، بعيداً عن التحيز والتحامل والحسابات الباردة المتجنبة للنزق السياسي، مع تجنب الميل إلى الكلام بالألغاز واللعب بالألفاظ والعبارات التي كثيرا ما تفقد الكلام معناه".

فكتاب " أحداث ومواقف "، المرفق بملاحق وبصور فوتوغرافية، يتوقف عند تسع محطات، هي «البئر الأولى» و«بداية الوعي الوطني»، و«ميلاد الاتحاد» و«المهدي بن بركة: الرجل والقضية» و«ثورة الطلاب (1968 والقضية الفلسطينية)» و«المحاولتان الانقلابيتان» و«عمر بن جلون الشهادة والاستشهاد» و«تستمر محن الاتحاد» و«بين الحزب والدفاع عن القضية الوطنية في الأمم المتحدة» و«مغادرة الحزب والمهام الدبلوماسية» و«حكايتي مع العراق» و«سفير المغرب بالأردن» و«مستشار دبلوماسي في وكالة بيت مال القدس».

و كتب الدبلوماسي السابق محمد بنمبارك في تأبين المهدي العلوي بأن "أحداث ومواقف" كان عملا من أعمال الوعي بالذات وتجربة سياسية أراد تقاسمها مع الأجيال الصاعدة، تحدث فيه بأعلى صوت عن ممارسة العمل السياسي والوطني الحزبي، وعن نشأته في مدرسة الحركة الوطنية التي تربى فيها ونهل من معينها مبادئ الشرف والتضامن والإخلاص والتضحية من أجل الوطن والحزب، كما استعرض نشاطه الدبلوماسي، دفاعا عن القضية الوطنية كمندوب دائم للمغرب بالأمم المتحدة بنيويو ك، وكسفير لصاحب الجلالة بكل من مملكة هولندا والمملكة الأردنية الهاشمية. كما تناول في مؤلفه مساره كمستشار دبلوماسي بوكالة بيت مال القدس، وانشغالاته بالقضية الفلسطينية دفاعا عن حقوق الشعب الفلسطيني.

وخلص بنمبارك الى القول، وفاء لمعلمه في العمل الدبلوماسي وقدوته في الوطنية  " أن يموت فينا مولاي المهدي، سيظل حيا في القلب والذاكرة، ستبقى مناقبه وأفكاره وعطاءاته وسمات شخصيته المتفردة بين أهله وأحبابه وأصدقائه ومجتمعه ساطعة حاضرة في قلب المعترك، راسخة في نفوس كل من عايشه سواء في الحياة العائلية أو السياسية الحزبية النضالية أو المعترك الدبلوماسي".