مهرجان مكناس.. انتصار الفن في ‘‘دار لكبيرة‘‘

يتصدر المشهد الثقافي والفني والوطني ويفتح أمام المشتغلين في الدراما نوافذ إبداعية ومعرفية عديدة
مكناس: أحداث. أنفو الثلاثاء 13 مايو 2025

احتفل مهرجان مكناس للدراما التلفزية هذه السنة بنسخته الرابعة عشرة. وليد الأمس، كبر اليوم وصار شابا يافعا يضج بالحياة، وينثر على عائلة الفن والثقافة المغربية عبقه عندما يحتضن الجميع. المهرجان لم يعد أرضية للمنافسة بين الأعمال الدرامية والكوميدية المتنافسة على جوائزه القيمة، بل أصبح آلية للنقاش وتبادل التجارب الأفكار، بين الفنانين، وبين الفنانين والجمهور العريض.

 حضن للجميع 

قاعة المنوني وسط العاصمة الاسماعيلية مكناس. تنسدل السجادة الحمراء من أعلى الشارع عبر درج المدخل لتمهد الطريق بسخاء للقادمين من كل الأعمال الفنية المتنافسة، لولوج الصرح الثقافي الشهير. يتصدر المصورون والصحافيون المشهد عبر حلقات ممتدة، وتنتظر عدساتهم وصول الفنانين لترسم على حضورهم لمسة الألق. خلف المصورين، تصل جحافل الجماهيرالمكناسية المتعطشة للقاء متجدد بزوار المدينة ‘‘غير العاديين‘‘.

يقف محمود بلحسن، الرئيس المؤسس لمهرجان مكناس للدراما التلفزية في المقدمة، كأب ينتظر وصول أبناءه. ينثر الابتسامة هنا وهناك، ويجاهد لكي لا يطلع أحدهم على حجم العناء الذي يكابده يوميا، لكي يستمر هذا الصرح في احتضان أسرة الفن الدرامي الوطني. بكل تودد يقترب من ميكروفون الأحداث المغربية ويسر له بثقة ‘‘ نصل إلى المحطة الرابعة عشرة من المهرجان ونكبر كل سنة أكثر. الحضور الفني سواء درامي أو كوميدي أو من خلال الأفلام التلفزية يتطور أيضا كل سنة، وعليه فإن المهرجان يصبح ذلك المقياس الذي يقدم من خلال المهتمون والنقاد والفنانون تصورهم لمدى تطور الفرجة التلفزيونية بشكل عام. خاصة المهرجان تتجلى في كونه لم يعد أرضية للمنافسة بين الأعمال المتبارية، التي عرضت على المشاهد المغربي، خلال البرمجة الرمضانية الأخيرة، فقط، بل تحول إلى منصة يتبادل فيها كل المتدخلين الأفكار ويعرضون الرؤى حول المشهد الفني الوطني عموما. ماستر كلاس هذه السنة سيتناول أبعاد الدراما الوطنية من خلال ثلاثة فاعلين أساسيين: إدارة الانتاج والتشخيص والسيناريو، ولهذا الغرض يحتفي المهرجان بحضور ثلاث أسماء وازنة تمثل هذه الأعمدة الثلاث: خالد النقري مدير الانتاج المتميز وصاحب الرؤية الفنية الثابتة، والقامة المسرحية والتشخيصية الكبيرة عبد الله الشكيري، بالإضافة إلى الاسم المتميز في صناعة السيناريو مريم دريسي.

سعيدة وابراهيم

وسط حفل الافتتاح البهيج الذي ملأ فضاء المنوني بحضور وازن، تصدرته شخصيات مدنية وعسكرية، وجمهور أعطى للحفل رونقا خاصا بتفاعله العفوي، برزت قامتان فنيتان ارتأت إدارة المهرجان أن تكرمهما جريا على عادة تتكرر سنويا، تحتفي بمن أعطوا للفن المغربي مراحل كبيرة من حياتهم، بتفاني وإخلاص، وكرسوا تضحيات جلى خدمة للمشاهد المغربي وأملا في إمتاعه بفن مسلي وهادف في نفس الوقت، يراعي خصوصيته ويدفعه للاحتفاء بالانتاج الوطني في العائلة أولا ثم خارجها.

سعيد باعدي أولى المكرمين في مساء الافتتاح البهي، أطلت كعادتها على الجمهور الحاضر برونقها الخاص وكاريزمتها التي تفوح بعبق الحب والاحتضان. خاطبت الجماهير الحاضرة بعفويته المعروفة وتحدثت أولا عن علاقتها بالعاصمة الاسماعيلية التي رأت فيها النور، وكبرت وترعرت بين دروبها وأزقتها ودرست في مدارسها وثانوياتها. قالت سعيدة أن التكريم يكتسي طابعا خاصا لأنه يأتي من مكناس وفي مكناس، التي غادرتها قبل سنوات لتركب رحلة الفن بعد التحاقها بالمعهد العالي للفن المسرحي والتنشيط الثقافي في الرباط. قالت سعيدة أيضا أنها ‘‘سعيدة بالعودة للحضن الأول وأسعى لأن أكون دائما عند حسن ظن الجمهور محاولة إرضاء تطلعاته الفنية والفرجوية بكل الالتزام الممكن.

القامة الفنية الثانية لم تكن سوى المبدع المخضرم، وابن الركح المسكون بأبعاده الكاملة، الممثل القدير ابراهيم خاي الذي وقف أمام تصفيقات الحاضرين زمنا طويلا، في انحناءة تذكر بتواضع الكبار. ابتسامته الساكنة في قلوب كل محبيه كانت عنوان المشهد، وعندما تناول الكلمة استطاع بخفته المعهودة وذكاءه انتزاع الضحكة من الحاضرين في انسيابية آسرة.

قال ابراهيم خاي بعد تكريمه، أنه لا يملك ترف الاستكانة أو الاختباء، وأنه من اللازم عليه أن يجدد العهد مع العمل سواء في المسرح أو التلفزيون أو السينما، ليعيد لجمهوره العريض ولو قليل من الحب الذي يغمره به. جدد ابراهيم خاي العهد أيضا مع الفن، من خلال التزامه بتلبية دعوات كل المخرجين والمنتجين الذي تقع على عاتقهم مسؤولية اختيار كاستينغ الأعمال الدرامية أو الكوميدية، مبرزا أنه رهن إشارة الجميع من أجل فرجة ترقى لتطلعات المشاهد المغربي وذوقه الراقي والسليم.

ماستر كلاس

للمرة الأولى استدعت إدارة مهرجان مكناس للدراما التلفزية ماستر كلاس ثلاثي لتأثيث الموعد القار الذي أصبح عنوانا كبيرا للمهرجان، وحيث يمكن للفنان أن ينطلق نحو الحضور، سواء كان من الفنانين زملائه أو الجمهور العريض، للبوح بمكنونات دواخله.. تقديم رؤيته وتصويره.. تبرير اختياراته.. وتصويب سهام النقد الجاد والبناء في حالة وقوعه.. ولتمرير كل الأفكار التي لا يسمح بها انشغاله المهني أو اختفاؤه عن الساحة، أو أحيانا تقصير الإعلام في التواصل معه.

اعتلى منصة ماستر كلاس في النسخة الرابعة عشرة للمهرجان، ثلاثة أسماء وازنة تنشط في القطاعات التي تعتبر أعمدة الانتاج الدرامي. المنتج المتميز خالد النقري، قدم رؤيته للعمل الفني وتفاعل مع أسئلة المنشطين والحضور. أبرز النقري نقاط عديدة حول علاقة الانتاج بالعملية الفنية برمتها، وقدم تصوره حول علاقته بالممثلين والتقنيين على ‘‘بلاتو‘‘ التصوير. قال النقري أن الجودة رهان متجدد يشكل المحفز الأول لإدارة الانتاج، وأن على المتلقي أن يتفهم إكراهات الممارسة الفنية، التي تخفى عنه في الكثير من أبعادها.

عبد الله الشكيري، القامة الفنية الكبيرة وأحد أساتذة المسرح وفن التشخيص، تناول في تدخله، تلك العلاقة الملتبسة بين الممثل والشخصية التي يجب أن يقدمها للجمهور، مستدعيا أعلى نظريات التأطير في علم التمثيل، ومستحضرا تجربته الطويلة التي تمتد لأكثر من ثلاثة عقود فوق المسرح وخلف عدسات المخرجين. اصر عبد الله الشكيري على التذكير بأن على الممثل أن لا يترك أية مسافة بينه وبين الشخص، وان أدواته في استكمال تقمص الشخصية، تستدعي تجربته وتحضيره وذاكرته وانفعالاته، قبل أن يعرج على بعض من تجاربه الشخصية، سواء داخل المغرب أو خارجه، في تصوير بعد الأعمال الدرامية أو العمل المسرحي، للتاكيد على ان كل تجربة تضيف لبنة جديدة داخل كل ممثل، من أجل استجلاء صرح الفن بداخله وتطويره نحو الأفضل كل مرة.

مريم دريسي الاسم الفني البارز، ومدرسة السيناريو قائمة الذات بالمغرب، ألمحت إلى أن دور سيناريست يكمن في تجهيز العمل بكل أبعاده، وان يستحضر الأبعاد الاجتماعية والنفسية والحسية عندما يخلق شخصياته لتكون استكمالا للخيط الناظم للسيناريو الذي يبنى أولا على الفكرة المختصرة والمركزة. وحول تركيز الانتقادات، في الاعمال الفنية، على السيناريو باعتباره الحلقة الأكثر تأثيرا في جودة العمل الفني، قالت مريم أن غاية كل سيناريو هو حمل العمل بكامله من فكرته إلى إخراجه، عبر تقديم قصص رئيسية و اخرى ثانوية بطريقة تجعل المشاهد العادي يتفاعل مع كل الأحاسيس التي على الشخصيات أن تقدمها له، دون أن تنسى التذكير بأنه أحيانا، ولأعطاب في العملية الانتاجية وفي مراحل أخرى، قد لا يكون ما كتبه السيناريست هو بالضرورة ما يشاهده المتلقي عند عرض العمل الفني، وأن تداخلات كثيرة قد تغير شكل المكتوب قبل التصوير النهائي.  

 

وعود.. ووعود

خلف هذه الدينامية الفنية المتواترة، وحضن الدفء الكبير الذي يجمع كل الفنانين المغاربة، مجهودات كبيرة ومكلفة تضطلع بها إدارة المهرجان، كل سنة دون كلل أو ملل، لتحافظ على هذا الموعد الذي يحظى بالرعاية السامية لصاحب الجلالة الملك محمد السادس، ويقام بشراكة مع جهة مكناس فاس وعمالة مكناس. استمرار هذه المهرجان على مدى ال15 سنة الأخيرة، ليس وليد صدفة ولا تجميعا ل‘‘نوايا إنشائية‘‘ متفرقة، بل نتيجة عمل مضني ودؤوب يستمر على مدار السنة، ليقدم المهرجان في حلته البهية التي عهده عليها الجميع. خلف هذا المجهود يقف محمود بلحسن، الممثل الكفؤ وخريج المعهد العالي للفن المسرحي والتنشيط الثقافي، وأستاذ مادتي المسرح والتشخيص. محمود ومنذ ان اخذ على نفسه عهدا بإقامة المهرجان في مكناس، اصر على تحويله إلى قبلة فنية وسياحية للمدينة، وسعا إلى جعله في قلب حركية المدينة التي تنتعش طوال أيام المهرجان، وتشجع سكانها على الانصهار في محيطه لتشكل بعدا إضافيا، يضفي عليه الكثير من معالم الحياة والتفاعل. يكفي الانتباه إلى حجم الحضور في المنوني عند الافتتاح أو الاختتام، أو خلال متابعة العروض لمعرفة حجم الوقع الإيجابي للمهرجان على مدينة تحتاج للكثير من التنشيط في كل النواحي.

لا حاجة للتذكير بميزانية المهرجان التي تظل أقل بكثير من تطلعات منظميه، واقل بكثير ايضا عن ما يروج في ذهن المتربصين به سواء داخل مكناس أو خارجها. مصاريف لا تكفي لتغطية كل أنشطة المهرجان، ما يدفع بإدارته والقائمين عليه إلى الاعتماد على أنفسهم في حل مشاكل يومية، مثل أيواء ضيوف وزوار المهرجان في ظروف جيدة، وتأمين مقامهم وتنقلاتهم.

سيبدو مشهد المهرجان رائعا لكل من يشاهده من الخارج. في كل حفلات افتتاح المهرجان في نسخه السابقة، يتناوب المسؤولين عن تدبير الشأن المحلي في مكناس أو الجهة على الكلمة من أجل تدبيج تدخلاتهم بالكثير من الوعود التي لا تنعكس بالضرورة على واقعه. في مكناس، حيث تحتضن عفوية الناس الفنانين بكل الحب الممكن، ينتظر من هؤلاء المسؤولين رفع ميزانيات الدعم المخصصة للمهرجان وتأمين كل حاجياته بطريقة تليق بضيوفه وتوهجه الوطني.. حفاظا على هذه الدينامية التي ترفع المدينة إلى مصاف الحاضنات الفنية الكبرى للمملكة.