لم يكن غريبا أن ينزلق عبد الإله بن كيران الأمين العام لحزب العدالة والتنمية، ورئيس حكومة أسبق من مقام رجل الدولة إلى درك الشعبوية المقيتة، لكنه ما عاد اليوم مجرد ظاهرة صوتية مزعجة أو فائضا دعائيا خارج الزمن، بل أضحى، في خريف عمره السياسي، تهديدا مباشرا للمصالح العليا للوطن لأن ما يلفظه الرجل من مواقف ومصطلحات في خطاباته الأخيرة لا يندرج فقط ضمن خانة العبث السياسي، بل يتجاوزها إلى ما هو أخطر: تخريب ممنهج لأعمدة المشترك الوطني، وتشويش على ثوابت السياسة الخارجية، وتبخيس لوزن المغرب في معادلات توازن دقيقة، وخصوصا في ظرفية إقليمية ودولية حساسة، لا تحتمل عبث سياسي شعبوي يستهويه الضجيج أكثر مما تعنيه مصالح الدولة.
لقد دأب بن كيران، منذ أن لفظته صناديق الاقتراع وجرّدته الآلة الانتخابية من أوهام الزعامة هو وحزبه، على إعادة إنتاج ذاته من خلال هجمات مرتجلة تستهدف خصومه السياسيين ومؤسسات الدولة أحيانا، دون أي اعتبار للمصلحة العليا أو هيبة المؤسسات أو القواعد الدبلوماسية. غير أن ما تفوّه به في خطابه بمناسبة فاتح ماي 2025 لا يمكن أن يمرّ دون محاسبة سياسية وأخلاقية. فحين يهاجم رئيس دولة صديقة كفرنسا، ويصفه بـ"المدلول"، ويسخر من مواقف دولة دعمت المغرب في ملف الصحراء المغربية، فإنه لا يعبر عن رأي حرّ في إطار الاختلاف الديمقراطي، بل يرتكب جريمة سياسية في حق الوطن، بتعريض مصالحه لعزلة دولية وتوتير علاقاته مع شركائه الاستراتيجيين، في ظرف يفرض أعلى درجات الانضباط والمسؤولية الوطنية.
ثمّ يأتي الرجل مجددا، ليغوص أكثر في مستنقع السفاهة، حين ينعت الرئيس الأمريكي الحالي دونالد ترامب بالمجرم، متناسيا أن الولايات المتحدة هي الحليف الأول للمغرب، والداعم الحاسم لمغربية الصحراء بقرار سيادي غير مسبوق. هل كان بن كيران يجهل أن التوازن في ملف وحدتنا الترابية يستند إلى شبكة معقدة من التحالفات والمصالح؟ أم أنه يعتقد أن هجومه الأرعن على أقوى رئيسي دولتين غربيتين، فرنسا وأمريكا، يمكن أن يمرّ دون عواقب على صعيد العلاقات الثنائية والدبلوماسية المغربية؟ ثم بأي صفة يتحدث؟ ومن خوله الحديث باسم المغاربة؟ أهو يعتقد أن المغرب لعبة في يديه يصرفها وفق نزواته الخطابية؟
googletag.cmd.push(function() { googletag.display('div-gpt-ad-1667386526530-0'); });
الحقيقة أن بن كيران لم يعد مجرد سياسي يتوهّم العودة، بل تحول إلى خطر حقيقي يهدد بنية الاستقرار، وينفخ في أوهام الاصطفاف الأيديولوجي المتطرف، بل ويمهد، من حيث لا يدري وربما يدري، الأرضية لخطابات تحريضية ذات طابع عدمي وعدواني تجاه مؤسسات الدولة وتجاه شركائها الدوليين. لأن الوطن، في أدبيات العقلاء، ليس مسرحا مفتوحا للنزق الخطابي، ولا هو مطيّة لتصفية الحسابات الأيديولوجية القديمة مع الغرب أو مع الإرث الكولونيالي. المغرب، وهو يخوض معركة شرسة من أجل توطيد وحدته الترابية، وتنويع شراكاته، وتحصين استقراره الداخلي، لا يحتمل هذا النوع من الكلام المنفلت الذي ينضح جهلا وسطحية.
ثم أي نصيب من الوطنية عند رجل استبدل الانخراط الفعلي في بناء مؤسسات قوية عادلة، بالتحريض على الدولة، والتطاول على رؤساء دول؟ بأي منطق تهاجم فرنسا، وتزدرى أمريكا، ويُغض الطرف عن دعم هذه الدول للمغرب في مجلس الأمن، وفي المنتديات الدولية؟ لماذا لا يقول بن كيران كلمة واحدة واضحة عن مناورات الجزائر وصنيعتها البوليساريو؟ لماذا لا ينتقد الحياد العدائي لبعض الدول العربية تجاه قضية الصحراء؟ أليس من السهل شتم الغرب في تجمعات شعبوية واستثمار القضية الفلسطينية بمكر ديماغوجي لتصفية حقد دفين على الدولة الحديثة التي لفظته؟
إنه لمن العبث أن يُترك بن كيران ليواصل خطابه الهدّام دون محاسبة سياسية. ليس لأنه فقط تجاوز حدود اللباقة الدبلوماسية، بل لأنه فعليا يهدد مكتسبات الدولة في ملف وحدتنا الترابية، ويقوّض تماسك خطابها الرسمي، ويفتح جبهات مجانية مع حلفاء تاريخيين في عز حاجة المغرب لهم. فالمواقف ليست مجرد كلمات، بل مفاعيلها تمتد إلى العلاقات الدولية، وإلى قرارات في غرف مغلقة تصنع فيها مصائر الشعوب. هل يفهم بنكيران، وهو الذي لا يتقن غير الصراخ، معنى أن تسيء إلى شركاء المغرب أمام عدسات الكاميرا؟ هل يدرك كيف تُقرأ تلك الرسائل في واشنطن وباريس؟ أم أنه بلغ من النرجسية السياسية درجة يتصور معها أن المغرب لا يُصنع إلا في مضافاته الدعوية؟
لقد تحوّل الرجل، في النهاية، إلى كيان فوضوي، يوهم الناس أنه حريص على فلسطين، وهو في العمق يركب على الدم الفلسطيني ليعيد تسويق نفسه كزعيم ممانع، وما خرجاته اليوم إلا محاولة يائسة لمغالطة الرأي العام، بعد أن سقط قناعه وكشفت المرحلة أنه لا يختلف عن تجار الدين والانتهازيين في شيء، بل قد يكون أخطر منهم، لأنه يُلبس العبث السياسي لبوسا مبدئيا كاذبا، ويوهم البسطاء أن مشكلتنا ليست مع يحلم ليل بالسطو على صحرائنا وبلوغ منفذ لمحيطنا، بل مع الغرب، الذي وقف مع قضيتنا أكثر مما فعل "إخوانه" في العقيدة والدم بين آلاف الأقواس.
إن بن كيران بهذا الخطاب يعبث بسيادة الدولة، ويقوّي خطاب الخصوم، ويقدم لهم الذرائع كي يشيطنوا المغرب ويشككوا في استقراره السياسي. فهو لا ينطق باسم أي مؤسسة، ولا يتحمل أي مسؤولية رسمية، ومع ذلك يتحدث كأنه يمتلك تفويضا شعبيا لمهاجمة رؤساء الدول ونسف كل ما بنته الدبلوماسية المغربية خلال عقود. ثم من هذا الذي خوله الحديث وهل هذا هو الرد الذي يليق بالاعتراف الأمريكي التاريخي بمغربية الصحراء؟
الواقع أن السماح لبن كيران بالاستمرار في هذه العربدة السياسية دون محاسبة، يُعدّ في حد ذاته تواطؤا خطيرا مع العبث. لقد صار لزاما على القوى الوطنية الحية أن تضع حدا لهذا الانفلات، وأن تقول للرجل إن زمن المزايدات انتهى، وإن الوطن لا يُبنى بالصراخ والمزايدة، بل بالمسؤولية والنضج. فلن تنفعه لا أسطوانة فلسطين ولا الادعاء الزائف بالغيرة على الأمة، ما دام يفرّط فعليا في القضية الوطنية، ويروج لخطاب سياسي يضعف جبهة الإجماع الوطني. إن المغاربة اليوم في حاجة إلى رجال دولة، لا إلى مهرّجين. في حاجة إلى وعي سياسي يعلي من شأن المصالح العليا، لا إلى صراخ أجوف يهدد التحالفات الاستراتيجية. بنكيران اليوم لم يعد يشكل ظاهرة داخلية مثيرة للجدل، بل بات حالة مرضية في الجسد السياسي، تتطلب علاجا عاجلا قبل أن يستفحل داؤها. الوطن لا يحتمل هذا القدر من العبث، ومن يعتبر أن مهاجمة فرنسا وأمريكا باسم فلسطين بطولة، فليبحث له عن مكان في مزابل التاريخ، لأن هذا البلد أكبر من حقده، وأطهر بكثير من نواياه.