في مقطع فيديو مصور بلغني من صديقة عزيزة، يظهر فيه عبد الإله بنكيران، الزعيم السابق والحالي وربما اللاحق والأبدي لحزب العدالة والتنمية، تتجسد من خلاله، واحدة من أخطر التجلّيات الخطابية التي تفضح ليس فقط البنية الذهنية للفاعل السياسي الإسلامي المحافظ، بل تعرّي أيضاً اختلالات فادحة في منظومة القيم والتواصل السياسي الذي يختبئ وراءه خطاب الرجعية. فالخطاب كما هو مسرود لا يمكن اعتباره زلة لسان عرضية، بل هو تعبير واعٍ عن منظومة فكرية ترى في "السب والشتم" أداة مشروعة ما دام يخدم "القضية"، وتغطي على هذا الانحدار بمنطق "النية" و"الصدق" المزعومين.
ما يدعو إلى القلق ليس فقط في مضمون ما قاله بنكيران، بل في طريقة تعبيره التي تستبطن اختزالاً لعالم القيم إلى ثنائية فجة بين ما هو مقدس وغير مقدس، بين "القضية" و"الأسلوب"، وكأن مناصرة الشعب الفلسطيني تبرر الانحدار الأخلاقي، وتبيح كل أشكال الخطاب العنيف، ما دام هذا العنف نابعاً ممن "يحمل القضية". في هذا الإطار، يصبح الشتم والمحاباة والانفعالات الغريزية بمثابة مؤشرات على "الصدق" و"الالتزام"، في حين يُتهم من يمارس النقد العقلاني والواعي بالخيانة أو الجبن أو العمالة. هكذا تنقلب المعايير، ويتحوّل الانفعال إلى فضيلة، والعقل إلى رذيلة.
وحين يُقحم بنكيران تشبيهاً بالحمار في سياق تبرير سلوكياته، فإنه لا يفعل سوى إعادة إنتاج صورة "الزعيم" الذي يتماهى مع رموز شعبوية يعتقد أنها تُكسبه القرب من الجماهير، لكنه في الحقيقة يسقط في منزلقات خطيرة تمس بالذوق العام، وبالرمزية الثقافية للحيوان نفسه، الذي، وإن وُصف تقليدياً بالغباء، إلا أنه في التحليل العلمي حيوان ذكي، صبور، وله قدرات حيوية فائقة. فالقول "أنا أحب الحمار" ليس نكتة بريئة ولا مجازاً مألوفاً، بل إقرار مبطن باستبطان موقع الدونية الطوعية، كأنه يقول إن الامتثال والخضوع والانقياد وراء الانفعال الغرائزي هو شرف لا يضاهيه شيء. بهذا المعنى، يصبح التماهي مع "الحمار" إشارة رمزية إلى نوع من الاستعداد الطوعي للعب دور الأداة، بدل الارتقاء إلى دور الفاعل العاقل.
googletag.cmd.push(function() { googletag.display('div-gpt-ad-1667386526530-0'); });
إن تبرير خطاب العنف الرمزي في الساحة السياسية باسم "القضية الفلسطينية" هو من أخطر مظاهر الابتذال السياسي، ويشكّل انتهاكاً صارخاً لمبادئ النضال الإنساني الذي لا ينفصل عن الكرامة وحرية التعبير. فالقضية الفلسطينية ليست في حاجة إلى مزايدين يستعملونها لتبرير فشلهم أو سقطاتهم الأخلاقية. كما أن استعمالها كأداة تبريرية للتهجم والتشهير هو شكل من أشكال توظيف المأساة لأغراض سياسوية ضيقة، وهو ما يُسقط كل المصداقية عن المتكلم.
وفي ظل هذا المنطق، لا يعود للمشروع السياسي أي أفق تحرري، بل يتحول إلى مجرد آلية لتدجين الجماهير وتحويلها إلى كتلة منفعلة تنفعل بالشعارات وتغضب بالسب، دون أن تتمكن من إنتاج فعل تاريخي واعٍ. هنا، تظهر خطورة الفكر الذي لا يفصل بين السياسة كفن للتدبير والتواصل، وبين السياسة كمنصة للثأر والانفعال. كما يظهر خطر الزعيم الذي يقدم نفسه على أنه استثناء أخلاقي، في حين أنه يمارس كل ما يدعي محاربته.
إن تحليل هذا الخطاب لا يمكن أن ينفصل عن أزمة الفكر السياسي المحافظ الذي يعجز عن تجديد نفسه، فيركن إلى ممارسات خطابية بالية تسعى إلى دغدغة العواطف بدل إعمال العقل، وتتحصن خلف قضايا عادلة لتبرير سلوكيات غير عادلة. ومن ثم فإن مثل هذا الخطاب لا يعبر عن انحراف فردي فقط، بل هو نتيجة طبيعية لبنية فكرية لا تزال تُنتج الزعيم الملهم، المتعالي على النقد، المستثنى من الأخلاق، المُحصّن ضد المساءلة، ما دام يتحدث باسم "القضية" أو "الإسلام" أو "الشعب".
وهذا ما يجعل النضال الحقيقي اليوم لا يمر عبر دعم هذه الأصوات بل في فضحها وتفكيك خطابها، والكشف عن التناقض بين ما تدّعيه من مبادئ وما تمارسه من عنف رمزي وتبرير للسقوط. فبقدر ما نُظهر هذا التناقض، نعيد الاعتبار للفكر النقدي، ونُحرر القضايا العادلة من عبء الاستغلال السياسي الانتهازي.
* أستاذة جامعية. فاعلة سياسية ونقابية