نشرت المديرية الجهوية لقطاع الثقافة بجهة درعة تافيلالت إعلانًا عن فتح باب الترشيح للمشاركة في الدورة الثلاثين لملتقى سجلماسة لفن الملحون، المزمع تنظيمه بين 16 و18 ماي 2025 بمدينتي الريصاني وأرفود ورغم مرور ثلاثة عقود على هذا الحدث الثقافي، لا يزال قطاع الثقافة عاجزًا عن تجديد مقاربته للاحتفاء بتراث الأمة في منطقة يُجمع الباحثون والدارسون على أنها شهدت نشأة وبداية شعر الملحون.
يتضمن الإعلان مجموعة من الشروط الواجب توفرها في الجمعيات الراغبة في المشاركة، وفي الحقيقة هذه المعايير لا تعني بالضرورة أن كل من استوفاها مؤهل لحمل مشعل هذا التراث و الإسهام في إحيائه وحفظه، واللافت في الأمر أن هذا الإعلان يكشف بوضوح عن محدودية معرفة قطاع الثقافة، ممثلًا في مديرياته الجهوية والإقليمية، بما فيه خريطة الممارسين الحقيقيين للملحون ووضعية الأجواق والمنشدين داخل حواضر هذا الفن بالمغرب والأكثر إثارة للاستغراب أن العديد من الجمعيات التي تتكاثر مع كل مناسبة ثقافية تستفيد من ريع الملتقيات والمهرجانات دون أن تبذل جهدًا حقيقيًا لصون هذا التراث والحفاظ عليه وأمام هذا الواقع، تتشعب بينا الطرق وتطرح مجموعة من الأسئلة:
هل يُعد ملتقى سجلماسة استثناءً ضمن الملتقيات الوطنية، بحيث يفرض على المشاركين تقديم ملفات ترشيح داخل إطار جمعوي؟ لماذا يتم مطالبة شيوخ الملحون، والأسماء الكبيرة التي راكمت خبرة تفوق نصف قرن في هذا الميدان، وأسهموا جديا في المحافظة على هذا التراث بإعداد ملف ترشيح للمشاركة؟ أليس في ذلك نوع من العبث يشعر هؤلاء بالاستياء من مثل هذه الشروط؟ بعد ثلاثين دورة، ما هي الإضافة الحقيقية التي قدمها هذا الملتقى لفن الملحون؟ وأخيرًا، هل المدة المحددة للملتقى كافية لاحتضان العروض الفنية والملتقيات والندوات، خصوصًا أن فن الملحون تجاوز الحدود الوطنية وأصبح تراثًا إنسانيًا عالميًا؟ أسئلة تبقى مفتوحة في انتظار إجابات مقنعة من الجهات المعنية.
googletag.cmd.push(function() { googletag.display('div-gpt-ad-1667386526530-0'); });
الملتقى الذي يجب أن يكون أب المهرجانات
إذا كانت وزارة الثقافة هي الجهة المسؤولة عن تنظيم ملتقى سجلماسة التاريخي لفن الملحون، فمن الطبيعي أن يكون هذا الحدث هو "أب المهرجانات والملتقيات" في المغرب، والنموذج الذي تُستنسخ منه مهرجانات وطنية أخرى تهتم بالملحون في باقي حواضره. لكن، للأسف، لا تزال المقاربة المعتمدة ضعيفة وغير قادرة على مواكبة التحديات، رغم أن الوزارة اليوم أمام مسؤولية وطنية وتاريخية، خاصة بعد تسجيل فن الملحون تراثًا لا ماديًا للإنسانية من قبل اليونسكو في 6 دجنبر 2023 فكنا نأمل أن يحافظ ملتقى سجلماسة على مستوى الدورات الأولى، حيث شكلت الندوات والموائد المستديرة فضاءً يجمع الممارسين لمناقشة قضايا فن الملحون، بهدف توحيد الصفوف ومعالجة الإشكالات المرتبطة بممارسته والحفاظ عليه كتراث عريق، كما تطلعنا إلى استمرار هذه اللقاءات في إنتاج توصيات عملية تشتغل عليها الوزارة على مدار السنة، بما يضمن تصحيح الأوضاع وتعزيز مكانة الملحون، خصوصًا بعد تصنيفه دوليًا أما على مستوى التنظيم، كنا نأمل أن يظل المشاركون مقيمين طيلة أيام الملتقى، ما يعزز التقارب والتفاعل في أجواء احتفالية حقيقية كما نتمنى استمرار الملتقى في الاحتفاء بالإصدارات والبحوث المنجزة على مدار السنة، إلى جانب تنظيم معارض خاصة بشيوخ هذا الفن، تكريمًا لعطائهم وإسهاماتهم.
وزارة الثقافة مطالبة برؤية وطنية شاملة
بعد تصنيف فن الملحون تراثًا إنسانيًا، أصبح لزاما على وزارة الثقافة أن تضع هيكلا جديدا وسياسة واضحة تتماشي مع الظروف الحالية وذلك لبناء رؤية وطنية منسجمة تتطلع إلى حماية هذا التراث والحفاظ عليه فماهي الطريقة المناسبة والقويمة للاحتفاء بفن الملحون بالمغرب؟ وهل استقصت أوضاع الملحون بم فاس، مكناس، مراكش، تارودانت، سلا، وأزمور، وهي الحواضر التي تعتبر معاقل تاريخية لهذا الفن؟ أم أنها تكتفي بإعلانات بروتوكولية تجعلها بعيدة عن الواقع؟
حينما تنشر المديريات الجهوية لوزارة الثقافة طلبات مشاركة أجواق الملحون، وتضع شروطًا لا تعكس سوى جهلها بحقيقة هذا التراث، فهذا دليل على أنها تغرد خارج السرب ولا تدرك شيئًا عن الأجواق الفاعلة، ولا عن العازفين والمنشدين والشعراء الحقيقيين في المغرب.
الوزارة تمتلك الأدوات لكنها لا تستغلها
إن وزارة الثقافة باعتبارها هيئة تنظيمية، فهي تمتلك أدوات يجب أن تسخرها لكي تكون الحامي والحارس الرئيس لفن الملحون، فهي تتوفر على معاهد موسيقية رسمية، لكنها لم توظفها بالشكل الصحيح لتكوين عازفين ومنشدين متمرسين في هذا الفن. كما أن لديها مديريات جهوية وإقليمية لم تستطع مد جسر التواصل مع الفاعلين الحقيقيين لهذا الفن وبناء علاقة جديدة معهم.
فعلى المدراء الجهويين والإقليميين أن يقوموا بدورهم وأن يكونوا القوة الدافعة خلف الوزير، بالاشتغال على رؤية استراتيجية واضحة تخدم التراث المغربي، بدل أن يظلوا عالقين في أساليب تدبيرية تقليدية تُكرّس الجمود بدل التطوير واستمرار الوضع الحالي فيما يخص الملحون يجعلنا نؤكد أن قطاع الثقافة في المغرب، كما هو مُدار حاليًا، بات خارج التاريخ وخارج التراث، وغير قادر على حماية وتقديم أحد أهم الفنون الوطنية في أفضل حلة.
اقتراح أولي: لقاء وطني للخبراء
اليوم، وبعد كل ما ذكرناه، وبعد تصنيف فن الملحون تراثًا إنسانيًا، بات من الضروري أن تتحمل وزارة الثقافة مسؤوليتها عبر اتخاذ خطوات عملية جادة، وأول خطوة ينبغي أن تقوم بها هي جمع الخبراء والمختصين في مجال تراث الملحون في لقاء وطني للتشاور والتدارس حول وضع استراتيجيات قريبة وبعيدة المدى لحمايته وصونه واحترام الالتزامات الدولية التي تفرضها الاتفاقيات والتي وقعتها الوزارة مع منظمة اليونسكو أثناء تقديم ملف تصنيف الملحون تراثًا لا ماديًا للإنسانية وإذا لم تتحرك الوزارة في هذا الاتجاه، فسنكون أمام سياسة ثقافية عقيمة تُفاقم أزمة فن الملحون بدل أن تحميه وتحفظ استمراريته.
إن العمل على صون الملحون يجب أن يكون مشروعًا وطنيًا شاملاً، وليس مجرد تظاهرات موسمية تفتقد للرؤية والتجديد وعلى وزارة الثقافة أن تعي أن مسؤوليتها تتجاوز الإعلانات البروتوكولية إلى ضرورة تبني استراتيجية مستدامة تحفظ لهذا الفن مكانته وامتداده في الأجيال القادمة والمديريات الجهوية يجب أن تكون الذراع الفاعلة التي تنفذ هذه الاستراتيجية، لا مجرد إدارات تستهلك الزمن الثقافي دون إنتاج فعلي يخدم الموروث المغربي.
وختاما هذا المقال ليس انتقادًا لوزير الثقافة الشاب، الذي يبذل جهدًا واضحًا في نشر الثقافة وصون الموروث الفني المغربي بل هو موجّه بالأساس إلى رؤساء المديريات الجهوية، الذين يُفترض أن يكونوا أداة فاعلة لمساعدته في تنزيل السياسات الثقافية، وليس عائقًا أمام تطور القطاع من خلال قرارات بيروقراطية فارغة من الرؤية والجدوى هؤلاء المسؤولون وجب عليهم أن يساهموا في تعزيز مكانة الملحون على المستوى الوطني ولا يسيئون للوزارة بسبب تدبيرهم التقليدي والعشوائي لهذا التراث.