لا يَحصر المغاربة العفو في صلاحية قانونية مُخوَلة لرئيس الدولة، بل يَرَون فيه ثقافة مُتأصلة، وعُرفا مُتجذرا في مُمارستنا، يَستقي من تقاليدنا فلسفته، ومن دِيننا أُسُسه وغاياته. فالعفو، بما يَحمله من عناوين الصَفح، والرأفة والرحمة... ليس صك براءة، ولا مُراجعة لأحكام قضائية نهائية، وأيضا لا يَأتي على حقوق الغير... فالعفو، يُمارسه جلالة الملك، باعتباره أبا للجميع، ووفق تقديره، مع مُراعاة الضوابط القانونية المؤطرة... وفي كل ذلك، فإن هذا القرار السيادي، يَجب أن يُقرأ في هذا السياق، وأن لا يَتحول إلى مَطية لإبراز بطولات مُتوَهمة، أو تأويلات تآمرية...
ويُلقي العقلاء والحكماء نَظرهم على الإشارات التي يَحملها العفو، وعلى دلالاته ومآلاته... ويُفضل العَدميون وأنصارهم من صيادي "الماء العَكر"، نَقل النقاش إلى دوائر التَكهُن، والتآمر... فلماذا فُلان وليس عِلان؟ ولماذا اليوم وليس الأمس؟... يَنظُر العقلاء إلى الرسالة والمقاصد، وإلى الأثر المحدث، وإلى ما بعد... بينما يَتوقف الفهم التآمري على اللحظة تبخيسا وإساءة... ويُفكر العقلاء، في أن هذه بداية، وعليها أن تَحمل بَشائر الاطمئنان، وأن تُصان بمواقف مَحسوبة، تُظهر حُسن استقبالها... ويَفهم العُقلاء، العفو بأنه لحظة قُوَّة من دولة، لا تَخاف لومة لائم، بمؤسساتها وأجهزتها، لدولة تَفتح "خَط رِجعة" لأبنائها، وتُحيطهم بقَول حكيم "إن الوطن غفور رحيم"... في حين يَأبى العَدميون، الذين تَفرقت بهم السُبل، إلا أن يَنشروا، وسط صدمة المفاجأة، بأن كل ذلك، ليس سِوى تنازل، وَهن، وضُعف، ورد فعل وليس فعل... في الأخير، يُقِر العُقلاء، بأن العدميين لا برنامج سياسي لهم، ولا قُوَّة اقتراحية لهم... وأن مَبلغ عِلمهم هو الرَفض... عَقيدة أبدية لكل من يَرى الهامش "أرضا مَوعودة"...
لقد رَحَّب الجميع، سياسيون وحقوقيون ومواطنون، بالمبادرة، في نبلها، وسياقها، ورَمزيتها قياسا بالمناسبة التي تمت فيها، لكن "تُجار الأزمات"، أبوا إلا أن يَستغلوا فَرحة المعتقلين بنسائم الحرية، وانشغال المغاربة بتقديم التهاني، للشُرُوع في "استثمار" الحدث... فبدأت الزيارات المكوكية، التي لم يكن لها أثر قبلا... المُوَثقة بالصور، المبثوثة على مواقع التواصل الاجتماعي... وتُدَبِّج المواقف على عَجل، وتَنشر البيانات، وتُصاغ المطالب للركوب على الحدث... والإعلان عن مَطلب "تَبييض السُجون".... كيف؟ والسُجون لا تَضُم سوى من قال فيهم القضاء المستقل كلمته؟ وإذا أردنا تبييض السجون، فعلينا أولا أن "نُبيِّض" السياسة الجنائية، وأن نَرفع التجريم عن الاغتصاب وهتك الأعراض والتحرش... وغيرها من الجرائم؟
googletag.cmd.push(function() { googletag.display('div-gpt-ad-1667386526530-0'); });
فتبييض السُجون كما يَزعم العَدميون، يَقتضي قَبلا "تَبييض النُفوس" من عقيدة التآمر، ومن "الانقلابية"، ومن "الَتقيات"...ومن مشاريع "القَومة" و"العُنف الثوري"... وغيرها من الخلفيات المُصطنعة.
فالكُل كان يَتُوق إلى حَلحلة وَضع مُعيَّن، إلى تَجاوز مَوضوع "للحق العام"، أُخرِج عن سياقه، للإساءة إلى الدولة وإلى مؤسساتها، لا ابتزازها ومُحاولة النَيل من مُنجزها على صُعُد عدة... وحين أتى "الفَرج"، وفُتح باب الأمل من جديد... نَجد أنفسنا مع من يُحاول إيصاده، بغير حق... لأنه أَلِف العَيش في الظلام والتآمر، حتى صَدَّق أكاذيبه، ولا يَرغب في سَحب البساط منه كُل مرة، وتَوقيف تِجارته البائرة التي لم تَعُد دعايتها تَنطلي على أحد، وحين فَشلت اليسراوية والإسلاموية، مُنفردتين، فكرتا في تحالف النقيضين... لأن التناقض جُزء من السياسة كما يَفهمونها... من حُسن حظنا، أن العُقلاء يَنظُرون إلى المستقبل ولا يَلتفتون إلى ورائهم... وحين يُفكرون ويُقرِّرون لا يَضعون في حساباتهم ماذا سيَصدُر عن "أصحاب التناقض"... لأنهم مُنشغِلون بالجَدل... واصطياد نُبل المناسبات... ومُحاولة ربطها بـ "خواء" الوثائق التي أُرشفت لحظة الكشف عنها....
فهنيئا للمغرب بالمبادرة الملكية السامية المتمثلة في العفو، ولا عَزاء للعَدميين الذين يَرتعون في المياه الآسنة ولا يَعرفون معنى الوضوح.