وداعا «حسن أرابيسك»

طارق جبريل الخميس 25 أبريل 2024

غادرنا إلى الضفة الأخرى منذ أيام الفنان القدير صلاح السعدني، أحد أيقونات الفن المصري، والذي خلد اسمه في الدراما العربية من خلال أعمال سينمائية وتلفزيونية جعلت منه نجما فوق العادة، على الخصوص في وجبة المسلسلات الرمضانية السنوية على شاشات التلفزيون.

شد انتباهي هذا الموهوب الجميل منذ أن التقى بمبدع دراما «مصر المحروسة» أسامة أنور عكاشة، المؤلف المصري المهموم بقضايا الهوية وطارح الأسئلة الوجودية الفلسفية من خلال أعمال قمة في الحنكة الدرامية عبر الشاشة الصغيرة للتلفزيون المصري، قبل أن يدخل رأس المال الخاص ويغرقنا في أعمال «التيك أواي». منذ سلسلة «أبواب المدينة»، بجزئيه، والتي غاصت في ثنايا المجتمع المصري مبرزة التحولات العميقة في «مجتمع السادات» حينها، تلك كانت بداية هذا النجم الفذ، ثم جاءت بعدها السلسلة الأشهر «ليالي الحلمية» و«العمدة سليمان غانم»، والتي حاول من خلالها عكاشة أن يبرز تحولات مجتمع ما بعد «الانفتاح».

تشرب السعدني شخصية العمدة الفلاح، الذي أتى من «ميت غانم» إلى المدينة باحثا عن موطئ قدم بين «باشوات» «أم الدنيا» إلى درجة أن دمغ دوره في المسلسل باسم «العمدة» أينما حل وارتحل بعد أن منح الشخصية الإضافة الشعبية وأخذها إلى عمق الانفعال المطلوب شكلا وموضوعا عبر لغة جسدية ونبرة صوتية زادت حتى من مساحة الدور الدرامي لـ«العمدة»، وكيف حافظ على شخصية الفلاح الذي لم تطمس هويته المدينة بكل زخمها وعنفوان الحياة فيها، إلى درجة أن أصبحت له «إيفيهات» خاصة جدا من هذا الدور الكبير كـ«قوم إيه»، بل حتى ضحكته الشهيرة صارت لازمة لشخصية العمدة «سليمان غانم». هذا العمل كان نقلة نوعية في مساره التمثيلي وعلامة فارقة لسعدني جديد مفعم بالتنوع وراكم كما هائلا من الخبرات أصلت موهبته الفطرية وجعلته قادرا على التماهي مع أي شخصية تسند له.

ثم جاءت الشخصية التي أبهرتني على المستوى الشخصي، والتي ترسبت في أعماق الوجدان واحتلت المكانة التي تليق بها داخل الروح وكانت بالنسبة إلي قمة نضج صلاح السعدني الفني، شخصية «حسن النعمان» في رائعة أسامة أنور عكاشة أيضا «أرابيسك»، حسن «الصنايعي» وفنان «الأرابيسك»، الذي كان يحاول عبر زخم وجوده في الحارة الشعبية ومن خلال صدامه وتحركاته داخل مجتمع شعبي بسيط أن يجاوب على السؤال المؤرق: من نحن؟ حاول أن يرسل لنا مؤشرات عن سؤال الهوية ذاك عبر تجواله في شوارع المحروسة والجلوس في مقاهيها ومحاورة «علي القوم» وكذا بسطاء «ملح الأرض» القاهرة القديمة. كان «الأرابيسك» مدخلا لأسامة أنور عكاشة للغوص في متاهات الهوية ومحاولة الإجابة على تلك الـ«من نحن» عبر بناء درامي للهويات المختلفة للشعب المصري. جسد السعدني هذه الشخصية المركبة جدا، «الحشاش» والناقم على التحولات العميقة داخل المجتمع زمن الانفتاح الاقتصادي غير المدروس وكذا «الجدع» والشهم وأيضا الشهواني والبوهيمي على طريقته، زاوج السعدني بين كل تلك الشخصيات المتعددة داخل روح «حسن النعمان» أو «حسن أرابيسك» من أجل أن يجد إجابة تريح حيرته داخل «خان دويدار» لسؤال عكاشة الحارق عن الهوية وليدة كل التمازجات التي منحت هذا الشعب «العربي» الهوية «المصراوية».

إنا لله.. شخصيتا العمدة «سليمان غانم» و«الصنايعي» «حسن أرابيسك» لن تسقطا مطلقا من وجدان وذاكرة الفن الدرامي الراقي، والأكيد أنهما لن تنتقلا إلى أي ممثل آخر غير صلاح السعدني صاحب التشخيص العظيم.. رحم الله هذا العملاق الذي أبدع وأمتعنا كثيرا.