أفاطم مهلا …! (ترفق يازمن )

بقلم: المختار لغزيوي الخميس 28 مارس 2024
6279ceaa-98f8-4591-87a9-c1000ca589de
6279ceaa-98f8-4591-87a9-c1000ca589de

بمثل الإقبال الذي يسجله الناس اليوم على مباريات الكرة، أو على ألعاب الفيديو، أو غيرها من مثيرات المشاهدة في زمننا الحالي، كنا ننتظر نحن في تسعينيات القرن الماضي برنامج "رجل الساعة" للراحلة الكبيرة فاطمة لوكيلي.

كنا ننتظره جميعا، دون أي استثناء، الدارسون قليلا، والواقفون في المنتصف، والآخرون الذين لم يسبق لهم الالتقاء مع فن فك الحرف أبدا، ولم يلجوا المدارس إطلاقا.

الفكرة العامة وراء تجمهرناو جلوسنا الجماعي انتظارا لفاطمة لوكيلي وبرنامجها كانت فكرة بسيطة: احترام السيدة واحترام الضيوف الذين تأتي بهم إلى البلاتو.

كان التلفزيون، قبل عصر الأنترنيت الظالم، مكانا لايلجه إلا من لديه شيء ما سيقدمه للناس: إفادة، علم، معلومة، خبر، شيء ما إضافي، يشكل لحظة بثه مصورا على الجمهور لحظة تعلم وتعليم.

لم يكن التلفزيون مكان التقاء البلهاء.

كان ركحا تصله بعد عناء كبير لكي تقدم للناس فعلا شيئا ما.

ثم كنا نحن، المغرب، في نهاية الثمانينيات، وبداية التسعينيات، قبيل إنشاء القنوات الإخبارية وغير الإخبارية عند العرب، الوحيدين في العالم العربي القادرين على جعل سيدة، امرأة، تمتطي صهوة التمرين السياسي الحواري في التلفزيون، وتنافس المحاورات الغربيات الكبيرات في أمريكا وفي أوربا في مرور مثل هذا، ظل حكرا على الرجال حتى وقت قريب، ولازال في بعض البلدان العربية أمرا مقتصرا (وقاصرا) على الذكور فقط.

ذات يوم، وهذا مجرد مثال على رفعة البرنامج ورقيه، أتت فاطمة لوكيلي بالزعيم ياسر عرفات إلى بلاتو برنامجها في القناة الثانية "دوزيم" (دوزيم كانت فعلا شيئا آخر مختلفا ومخالفا تماما).

شعر المشاهدون المغاربة بالفخر، لكأن الزعيم أبو عمار دخل بيوتهم بشكل فردي الواحد بعد الآخر، ووضعوا منذ تلك اللحظة السيدة فاطمة لوكيلي في رتبة "الأيقونة" فعلا، لا "أيقونات" هذا الزمن العجيب التي يطلقها الخلان على الخليلات فقط بسبب معزة شخصية، أو مصلحة عابرة لا أقل ولا أكثر.

كتبت الراحلة السيناريو للسينما، وأهدتنا رفقة كبار آخرين "شاطئ الأطفال الضائعين"، و "نساء ونساء"، وقالت من خلال فعل الكتابة للفن السابع إن طموح خيالها يفوق الواقع المعيش، وإن أملها للمغرب كبير وأفقه لاحدود له في كل المجالات، خصوصا مجال التمكين للمرأة المغربية التي تستحق كل خير.

كانت فاطمة في الأصل قادمة من تجربة إذاعية رصينة في الإذاعة التي كانت "المكان الضروري" "ميدي آن" في تلك السنوات، لذلك كانت تحمل زادا معرفيا حقيقيا ومحترما ساعدها في كل التجارب التي خاضتها فيما بعد لكي تكون الأكثر تميزا بين الجميع.

انزوت قبل الوقت بوقت طويل.

لماذا؟

لا أدري. البعض يقول المرض اللعين، وقد بدا أثره على جسدها منذ سنوات.

والبعض يقول إنه مرض آخر ألعن من المرض العضوي، يسمى مرض الحزن، ومرض تكسر كثير من الآمال على صخرة واقع قوي، شرس، عنيد يهزم البطلات والأبطال.

ماعلينا، الأمر لايهم. الأمر الآن في عداد الماضي، وفي ذمة التاريخ، ولاسبيل لإعادة أي لقطة فيه بالعرض البطيء.

المهم أنها انزوت في ركن قصي حزين، وبقيت تراقبنا ونراقبها، ونراقب في الوقت ذاته جميعا مافعلته الأيام بنا، ونرصد في بورصة النزول والصعود مؤشراتنا، فنحس بوخزة غير صغيرة في سويداء الفؤاد وفي أقصى العقل تذكرنا بالذي مضى، وتبكي على الوقت، وتلعن بكل أنواع السباب استدارة الزمن الفاجر، وضحكه منا، وسخريته الوقحة في حقنا.

يوم الثلاثاء الفارط، استفقنا على صوت فجيعتنا في المكناسية المتميزة التي عبرت إعلامنا بكل تألق، ومحبوها يخبروننا أن فاطمة لوكيلي ماتت.

عزينا أنفسنا قبل أن نعزي أقاربها، وتذكرنا قليلا من كثير مضى، وتراءت لنا مشاهد الكبار والكبيرات الذين رحلوا.

قال أكثرنا حكمة وتعقلا "هي دورة الحياة فقط، ولكل زمن رجال ونساء، ووعده الحق معنا أن من سره يوم واحد فقط من زمن ما، ساءته بقية الأزمان".

قرأنا ماتيسر لروح فاطمة، ولروح من عبروا من الكبار، وطلبنا من الزمن أن يترفق بنا وأن يتمهل لحالنا، وأن يسير سيرنا نحن الضعفاء، وعدنا إلى الوقت الحالي نحياه مثلما هو، وكفى.