دستور غالي يمشي على رأسه بدل قدميه!

يونس دافقير الثلاثاء 12 مارس 2024
IMG_9891
IMG_9891



لم يهتم اليسار كثيرا بالمسألة الدينية في المغرب، إلا أنه اضطر لاستيعاب أهميتها فيما بعد، ولو متأخرا، و النضج في موقفه من إمارة المؤمنين دليل على ذلك، خصوصا في اللحظة التي بلور فيها دستور 2011 تركيبا خلاقا غير مسبوق بين الحقلين الديني والسياسي.

من خلال تصريحاته في النقاش العمومي حول نظامنا الأسري، يبين السيد عزيز غالي رئيس الجمعية المغربية لحقوق الانسان أنه يعيش خارج تطور الزمن الدستوري الديني المغربي، ولذلك من الطبيعي أن يرى أن لجنة تعديل مدونة الأسرة توجد خارج الزمن التشريعي. وهي كما يقول، أولى الحيثيات التي بنت عليها جمعيته رفضها تلبية دعوة الحضور لعرض مذكرتها.

يحرص السيد عزيز غالي على أن يكون مستفزا في طريقة الإلقاء، اليوتيوب يتطلب بعضا من حركات المسرح، وحتى ابتسامة سخرية ماكرة، يخبر عزيز محاوره مثل بطل مغوار سجل هدف نصر عظيم: "عيطوا لنا وما مشيناش .. هاذيك لجنة خارج الزمن التشريعي .. مدونة الأسرة من اختصاص البرلمان".

يشعر صاحب البرنامج أنه في حرج، اللجنة حدد تركيبتها الملك أمير المؤمنين، وعليه أنه يقوم بواجبه المهني كمسؤول عن إدارة البرنامج، يقاطع ضيفه، يخبره أن "الملك سلطة تشريعية ومن صلاحياته تعيين اللجنة". في تلك الأثناء، مئات المتابعين يخرجون من هذا العرض ب "تحليل" متهور، مبني على ربط تعسفي بين معطيات دستورية غير صحيحة.

من هنا يبدأ نشر المغالطات، الملك أمير المؤمنين لم يشكل لجنة تعديل المدونة بصفته "سلطة تشريعية"، بل بصفته "رئيس الدولة" و"أمير المؤمنين". المنصوص على صلاحياتهما في الباب المخصص للملكية وليس الباب الحصري للسلطة التشريعية، ومن المدهش حقا أن يجهل مدير البرنامج أن الملك لم يعد مشرعا منذ 2011، منذ ذاك الوقت الدستور يعطي البرلمان وحده الاختصاص التشريعي الحصري.

كانت هذه واحدة من التحولات الديموقراطية الكبرى في نظامنا الدستوري، والسيد عزيز غالي على علم ولاشك بالتفكيك الذي طال الفصل 19 من دستور 1996 الذي كان يجعل "أمير المؤمنين" رئيسا للدولة بينما صار رئيسا للحقل الديني فقط، ويجعل من "الظهير الشريف" أداة تشريع "من السياسة العامة للدولة إلى تحديد السومة الكرائية" على حد تعبير الدكتور محمد أشركي.

بينما تواجه لجنة تعديل مدونة الأسرة ضغطا كبيرا من التيارات الدينية الأصولية، تختار الأصولية اليسارية، ذات النزعة السلفية الديمقراطية المحافظة، أن تكون حليفا موضوعيا يرجح ميزان القوى الديني المحافظ. كم هو ساذج أن تكون رجعيا بأوهام ثورية.

توجد لجنة تعديل المدونة في قلب الدستور، صحيح أن البرلمان يختص ب "نظام الأسرة والحالة المدنية" بموجب الفصل 71، وهو يملك الصلاحية المطلقة في ذلك، ويبقى الأمر على ما هو عليه ما لم يظهر اختصاص مؤسساتي آخر، فهنا تنتهي الصلاحية المطلقة للبرلمان ليبدأ مسار تشريعي آخر.

يحدث ذلك في الحالة التي يكون فيها نظام الأسرة قد تجاوز المجال المدني إلى المجال الديني، وهنا تبرز صلاحيات أمير المؤمنين المنصوص عليها في الفصل 41 (حامي الملة والدين)، كما أن هذا الاختصاص قد يتجاوز الإطار التشريعي الداخلي إلى العمل الديبلوماسي (ضمان الالتزام بالتعهدات الدولية للمغرب) وهنا تبرز صلاحيات رئيس الدولة المنصوص عليها في الفصل 42.

من الواضح أن مدونة الأسرة توجد في تماس مع الدين، لأن بعض التعديلات تتطلب اجتهادا في النص الديني والفقهي، كما أن الالتزام بتعهدات دولية يطرح جانبا من الشريعة على الطاولة، ولهذا نفهم سر هذه الهستيريا التي تحكم اندفاعة التيارات الدينية هذه الأيام، لكن من دون أن نستطيع فهم كيف يمكن لعزيز غالي، الذي يقول صباح مساء في الحكومة والبرلمان ما لم يقله مالك في الخمر، أن القبة البرلمانية هي من عليها حسم انقسامنا المجتمعي حول فهم وتأويل النص الديني لنظامنا الأسري!!.

في نهاية المطاف، سيعود الاختصاص إلى البرلمان، بعد نهاية عمل اللجنة سيعرض الجانب الديني الخلافي في المدونة على أمير المؤمنين، وسيحال نص تركيب التوافق المجتمعي على رئاسة الحكومة، ومن هناك نعود إلى الزمن الدستوري ليأخذ التشريع طريقه إلى البرلمان، فالملك هنا لا يضع نصا تشريعيا، بل يدير حوارا مجتمعيا حول تعديل نص تشريعي، هناك فرق كبير بين الحالتين.

في كل هذا، يضمن أمير المؤمنين لقوى الانفتاح الديني ما لاتستطيع تحقيقه بميزان قوى مجتمع ذكوري محافظ، جربنا ذلك في قضايا المرأة والهوية قبل عشرين سنة، ونعيد تجريبه بوثوق مرة أخرى، لكن من يمشي يساريا على رأسه بدل قدميه، لن يستوعب أن "أمير المؤمنين" القرن الواحد والعشرين حليف موضوعي، في الديمقراطية كما في الدين.