كان يغني مثلما كان يعيش، بحب، بفوضى، بإيمان صارم بنفسه، بإيمان أقوى أن لحظته ستأتي ذات يوم، ثم بإيمان آخر، يكبر مرة ويصغر مرة، أن هذه الساعة لن تحل، وأن المغرب لن يعترف به إلا بعد غيابه.
كان يحمل من جينات عبد الحليم حافظ الجينة التي لاتستحب الإصابة بها: جينة العذاب. ومن اقتربوا منه قليلا أو كثيرا ذات يوم يعرفون هذا الأمر جيدا، وإن كان يتقن مداراته عن الغرباء، ولايعترف به إلا في لحظات صفاء نادرة مع من يثق بهم.
ثم هناك محبوه، الذين ظلوا دائما يؤمنون أنه يتوفر على موهبة ما تفوق الآخرين كثيرا، لكن هذه الموهبة لاتطاوعه لكي يصل الوصول الذي يليق به، ولاتسعفه لكي ينال بها المكانة التي كان يستحقها فعلا.
وقد كنا محسوبين على رؤوس الأصابع في المشهدين الفني والصحافي المغربي حين عاد من مصر منذ سنوات، في بدايات الألفين، مقتنعا أن مكانته توجد في بلاده، وأنه مهما أبدع في أداء حليم مصر، لن ينسى المصريون أنه مغربي، خصوصا وأنه رفض دوما وأبدا التنكر لهويته المغربية، ولم يرغب في تقليد آخرين، وأخريات، انصهروا بالكامل في فن أرض الكنانة، وصاروا مصريين ومصريات بالكامل، لانكاد نعرف لهم أداءا مغربيا إلا في الماضي السحيق، أو فيما ندر من عبور لايعتد به.
عاد يومها، وكله أمل أن يجد شعراء مغاربة يكتبون له، وملحنين مغاربة يصعدون بصوته إلى الطبقة العليا التي كان يجري وراءها.
ثم عاد قليلا من الوقت إلى مصر، وانصهر في حفلات دار الأوبرا وأداء اللعنة الحليمية الجميلة التي اقترنت به.
وعندما عاد ثانية إلى المغرب، ونحن التقيناه في العودة الأولى ثم في الثانية، كان الحماس أقل، ولم تكن لديه أوهام كثيرة، بل أصبح شبه مقتنع أن "هاد الشي اللي عطا الله والسوق".
وحتى عندما بدرت عنه رفقة المبدعين التدلاوي في اللحن والباتولي في الكتابة التماعة رائعة هي الأغنية المحبة للمغرب "أرض البركة"، لم يكتف المؤمنون بطاقته الجبارة بها واعتبروها بداية مشجعة فقط، وتمنوا لو أنه يواصل النحت في الصخر، ومقاومة كثير من أوجه العذاب، لكي يبصم بصمته الخاصة على أغنيتنا المغربية.
المشهد الفني العام لم يساعد عبده الشريف في السير قدما نحو هذا الهدف، ومن أحبوا فنه وطريقة أدائه ظلوا يلتقون معه من حين لآخر وهو يشدو الملحون مقدما "للاغيثة مولاتي" بطريقته، أو متفوقا على المصريين، وبقية المؤدين العرب في الترنم بالشرقي مثلما يفعل ذلك القلة وكفى.
حتى تلك السهرة التي اختار لها يوم الثامن من مارس، يوم قول كل الشكر للمرأة في عيدها العالمي، لم تتم.
صبيحة تلك الجمعة رنت هواتفنا لكي تقول لنا إن السهرة ستؤجل، لأن وعكة صحية قوية فاجأت الفنان. ثم عادت نفس الهواتف اللعينة مدة قصيرة بعد ذلك لكي تقول لنا ببساطة فادحة، أو بفداحة لايمكن أن تكون بسيطة "عزانا واحد فعبده الشريف، لقد التحق بجوار ربه".
هو أغنية مغربية حزينة، استمعنا إليها وقد حملت قسرا غلاف روائع عبد الحليم حافظ، لكي تقنع الكل بها، ولكي توصل للجميع أن صاحب هذا الصوت مغربي يتقن - نعم _أداء العندليب الأسمر أفضل من الجميع، لكنه أساسا قادر على أداء أشياء أخرى بنفس التميز أو أكثر.
لم ننصت لعمق النداء، ولم نستمع لقرار الرسالة. بقينا نردد وراء عبده الشريف كلما تسلطن في أداء "جبار" أو غيرها من أغاني حليم "الله، الله، أحسنت، أحسنت" ولم نلح عليه بمافيه الكفاية لكي يقدم لنا شيئا منه هو، يبقى حتى الختام دليلا على موهبة فعلية أخرى، أضعناها جميعا، لأننا في بلد لازال مغني كل أحيائه غير قادر على أن يطربنا إلا إذا قال لنا أجنبي عنه إنه مطرب حقا.
رحم الله عبده الشريف، كان أنيقاً، وكان فنانا حقيقيا، لذلك لم يطلب أشياء كان يعتبر أنها يجب أن تأتي من تلقاء نفسها دون أن يستجديها منا جميعا.
بقي ينتظر، حتى خانه قلبه الطيب تلك الجمعة الحزينة، ومن يعرفونه جيدا سيقولون "لن يحزن، بالعكس سيكون مرتاحا لأنه رحل في يوم مبارك وفي أيام مفترجة قبيل شهر رمضان بأيام قليلة".
سيبتسم هناك، وستواصل أغنيته الحزينة التي لم تتم الشدو في دواخلنا حتى انتهاء كل الأيام.
