خطاب اختيار حضاري في عالم فرداني

يونس دافقير الجمعة 13 أكتوبر 2023
No Image

AHDATH.IFNO

لاتخضع خطب الملك لضغوطات السياقات الظرفية، وفضلا عن اختصاصه الحصري في المجال الديبلوماسي، لا تناقش خطب افتتاح البرلمان مواقف المغرب في الساحة الدولية. ذلك متروك لخطاب العرش، المسيرة الخضراء، وخطاب ثورة الملك والشعب قبل إلغائه.

من حيث الحجم، الخطاب الملكي قصير في حيزه الزمني، عدد جمله وفقراته، لكنه خطاب مكثف، مضمونه أكبر بكثير من مدة إلقائه.

يمكن فهم خطاب الملك في افتتاح البرلمان من خلال مفتاحين؛ التوجيه الكلاسيكي للعمل البرلماني خلال السنة التشريعية، والحضور الرمزي لرئيسي صندوق النقد والبنك الدوليين ضمن الحضور المستقبل للخطاب تحت القبة التشريعية.

في وظيفة التوجيه البرلماني، يضع رئيس الدولة البرلمان أمام قواعد عمل، مرجعيات وسلوك تهم ثلاث قضايا آنية:

1- عملية إعمار وإعادة بناء ما بعد زلزال الحوز، وتتبع ومراقبة العمل الحكومي بهذا الخصوص، مع الحرص على أن يكون التدبير شفافا ومنصفا.

في هذا الإطار هناك إشارة معبرة من الملك أمير المؤمنين: الزلزال قدر رباني وتدبيره عمل دنيوي، ولا مجال لأي تأويل آخر من منظومات العقاب الغيبية.

2- يتحدث الخطاب عن الأسرة والعائلة، وهو يحيل ضمنيا على المرجعيات المؤطرة لتعديل مدونة الأسرة التي هي طور نقاش مجتمعي قبل أن تدخل المسار التشريعي البرلماني السنة المقبلة.

يجيب الملك هنا عن كثير مما قيل عقب الدعوة الملكية إلى التعديل، لذلك يؤكد على مرجعيات الإسلام السني، إمارة المؤمنين...

3- مواصلة ورش الحماية الاجتماعية لبلوغ مرحلة تعميم التعويضات وصرف الدعم الاجتماعي المباشر على قاعدة السجل الاجتماعي، هذا ورش يمس ملايين المغاربة، ويتم توسيعه ليضم الأطفال في سن التمدرس، ذوي الاحتياجات الخاصة .. والعملية كلها تجري ضمن قانون الإطار الذي أقره البرلمان.

العناصر الثلاث لا تضع أجندة برلمانية جديدة، ولكنها إضافات إلى ملفات أخرى وضعها الملك أمام البرلمان، وعلى سبيل المثال الماء والاستثمار في خطاب السنة الماضية.

في حضور مسؤولي البنك وصندوق النقد الدوليين، البنية العامة للخطاب تتجاوز وظيفة التوجيه الكلاسيكي للعمل البرلماني، إلى عرض مقومات النموذج المغربي في الإجابة عن إشكالات التنمية والنمو التي ناقشتها الهيئتان الماليتان الدوليتان في مراكش هذا الأسبوع.

يمكن القول أننا أمام المصادر غير المادية للتنمية، وهي مصادر تختص بها المجتمعات العريقة كما هو الشأن في التجربة الأسيوية، وهي تعبير عن التشبت بالخصوصية الإنسانية، مقابل التنميط المادي التقنقراطي، والنزعة الفردانية المتوحشة، والميل المتزايد نحو مجتمعات المادة بدل القيمة:

وردت هذه المقومات تحت مسمى " القيم المؤسسة للهوية الوطنية الموحدة" وهي:

1- قيم دينية من معين الإسلام السني المالكي وإمارة المؤمنين: تسمح بتوحيد الجماعة الوطنية، وجعلها تتشبع بقيم التسامح. وهذا مختلف عن توجهات العنصرية والتطرف والكراهية في الزمن الاجتماعي الدولي المعاصر.

2- قيم وطنية تدور حول الملكية الموحدة للشعب حب الوطن، والإجماع حول الوحدة الوطنية، وهي تقوم بوظيفة الاستقرار الضروري للتنمية.

3- قيم اجتماعية: التضامن والتماسك، الأسرة، العائلة، وهي في تراجع حاد أمام النزعة الليبرالية المتوحشة، والتوجه الورداني المنفلت من أي وازع اجتماعي.

ويعزز الخطاب هذه القيم بروافع الحكامة العادلة والجيدة، وهي تعبير عن القيمة الدستورية للمسؤولية العمومية، ومنها يشير إلى الفعالية، التتبع، تقييم الأثر ... في الواقع، يدمج الخطاب منظومة القيم التقليدية المؤسسة مع منظومة التدبير العصري.

هنا.يقوم الملك بالاختيار الحضاري للمغرب، واختيار الإنتماء إلى نماذج التنمية الناجحة التي انطلقت من هويتها : الأسرة، العائلة، الدين، الحكم العريق، التضامن ...

بمعنى أننا نأخذ أحسن ما في هويتنا، وأحسن ما أنتجه العقل البشري الحديث في تدبير الاجتماع الإنساني.

_