في دمي... هواك

محمد أبويهدة الجمعة 22 سبتمبر 2023

AHDATH.INFO

"واقف على شغلو"، يقول اللسان المغربي إشارة إلى الشخص الذي يحرص على أداء عمله بإتقان، وهو أيضا ذاك الشخص الذي يغمره الله برحمته، استنادا إلى القول المأثور: "رحم الله من عمل عملا فأتقنه". لا سيما إذا ارتبط الإتقان بالسرعة وفي ذلك نقول منذ القدم: "خير البر عاجله".

بالنسبة لجلالة الملك فقد كانت عشرة أيام كافية كي يكون برنامج إعادة إسكان المنكوبين وتأهيل المنطقة المتضررة بكل أقاليمها، التي تشكل تقاطعا بين جهتين اثنتين، جاهزا ومتكاملا على طاولة الاجتماع الثالث.

هنا تبرز حكمة القائد وتبرز قوة الدولة وحضورها، ليس فقط في المعيش اليومي لمواطنيها، ولكن في الشدة والأزمات.

ليلة الكارثة جاءت التعليمات الملكية وكانت مختلف المصالح العمومية والأمنية والسلطات وأجهزة الإنقاذ في الموعد لمساعدة المنكوبين، وكانت ملائكة الرحمة تجوب سماء وقمم المناطق المتضررة في مروحيات عسكرية وعربات وآليات للبحث عن ناجين.

وفي اليوم الموالي وموازاة مع عملية الإنقاذ انطلقت خطة إيواء المنكوبين، والتفكير في مستقبل المنطقة، ولم تمض سوى أيام قليلة حتى وضع برنامج أولي، سرعان ما تم تداركه بخطة متكاملة لإعمار المنطقة وتأهيل الأقاليم المتضررة بغلاف مالي ضخم يناهز 120 مليار درهم.

بين التضامن الشعبي المنقطع النظير والقيادة الملكية لتدبير آثار الزلزال، يسير المتضررون نحو إقبار محنتهم في الأنقاض، بعد أن مزقت قلوب كل المغاربة.

هذا بالضبط ما حكته مئات المشاهد التي نقلتها فيديوهات جابت العالم، فوقف لها احتراما، مندهشا، من سيادة هذا التضامن في زمن تطغى فيه مظاهر الفردانية على حساب العلاقات الاجتماعية الصلبة والمتماسكة.

وكما شهد الجميع على هذا التكافل الاجتماعي الحي والصادق والعفوي، شهد أيضا في خضم هذا الزخم على مشاعر العطف الأبوي الدافقة، التي حبلت بها زيارة جلالة الملك لأبنائه من الجرحى والمصابين، وهو يتبرع بدمه لأجلهم، ويتفقدهم واحدا واحدا، ويسأل عن أحوالهم ويستفسر عن صحتهم، ويربت عليهم، ويحضن كبيرهم، ويقبل صغيرهم، وقد بدا على وجهه تأثر بليغ وحزن شديد، تؤلمه جراحهم ويوجعه مصابهم.

هي حكاية شعب انخرطت في نسجها كل فئاته: صغيرها وكبيرها، نسائها ورجالها، غنيها وفقيرها، حاضرها وغائبها (بالخارج)، بمدنها وقراها، بشمالها وجنوبها.

هبوا جميعا، بقليلهم وكثيرهم، ليوفروا المأكل والشرب والملبس والأغطية والأفرشة والخيام وكل ما يمكن أن يخطر على بال. كل ما يمكن أن تقع عليه عيناك في البيت ستجد نظيره على متن شاحنة متجهة إلى الدواوير النائية لمساعدة السكان المتضررين. مسيرة رهيبة اقشعرت لها الأبدان، ومشاهد بليغة تحكي قصة حب صادق، سواء بكمية دقيق منقولة على دراجة هوائية أو قنينة زيت تحملها مسنة أو دمعة من امرأة لا تملك سوى خاتم تنتزعه من أصبعها لتحول قصة التضامن إلى أسطورة حقيقية ينفرد بها هذا الشعب.

المغرب الذي بنى صحراءه بالأمس وحولها إلى مدن متطورة ببنياتها التحتية وعمرانها الذي يحترم خصوصياتها الجغرافية والمجتمعية، يسير اليوم نحو عمارة المناطق الجبلية التي تضررت جراء الزلزال ببنيات تحتية ملائمة لطبيعتها الجغرافية وتضاريسها، وبمعمار يحترم تقاليد الساكنة ونمط عيشها وحياتها الاجتماعية.

هذه هي طريقة التفكير والفعل المغربية، تراعي دائما الخصائص المجتمعية وتعلي من قيمها، وهو شيء يحرص عليه جلالة الملك أمير المؤمنين. وفي هوية المغاربة وإسلامهم أكبر دليل على ذلك، حيث اعتنقوا منذ القدم الوسطية والاعتدال، واحترموا اختلافهم في تعايش تنفرد به المملكة، وهي خصوصية نعرفها جميعا تحت مسمى "تمغربيت".

كانت صورة ما خلفه الزلزال واضحة منذ الليلة الأولى وهي صورة تحمل الكثير من الألم في تفاصيلها، لكن تدخل جلالة الملك الذي لم يغمض له جفن، والاجتماعات المتوالية التي أشرف عليها، كانت كافية كي تتضح معالم صورة أخرى تحمل الكثير من الخير للمنطقة، وتقبر هذه المحنة كي تتحول إلى مجرد ذكرى.

ملحمة الملك والشعب خلدها نشيد المملكة منذ عقود. جربوا قراءته بإمعان وفق كرونولوجيا العشرة أيام الماضية. كل بيت من أبيات هذا النشيد يحكي قصة هذا التلاحم إلى آخر بيت: "إخوتي هيا.. للعلا سعيا".. وقد لبوا النداء في قوافل ومسيرات التضامن التي تسلقت الجبال العالية، وأشهدوا على أنفسهم كل العالم كما يحكي النشيد في مقطع: "نشهد الدنيا.. أن هنا نحيا"، فأكدوا للعالم، وبما لا يدع مجالا للشك، أنهم يحيون في كل بقعة من هذه البلاد في الصحراء كما في الجبال، للوطن ومن أجله، كي يصنعوا ملحمة "الله.. الوطن.. الملك"....