آراء وأعمدة

يونس دافقير يكتب:حكومة عبء على الدولة

طه بلحاج الاثنين 15 يونيو 2020
OTMANI_SAAD_EDDINE
OTMANI_SAAD_EDDINE

AHDATH.INFO- يونس دافقير

هناك فرص تتاح مرة واحدة في الحياة، هي من النوع الذي لا يتكرر، إما أن تنتهزها إلى أقصى الحدود، أو تنفلت منك دون موعد للرجعة. ذلك ما ينطبق بشكل تام على زمن الوباء الذي وضع فوق طاولة الدولة فرصة من ذهب لاستعادة الثقة في علاقتها بمواطنيها.

وقديما قالت العرب «رب ضارة نافعة»، والوباء ضار بالبشر وبالاقتصاد وعائدات الدول، وقد يلحق ضررا آخر بحظوظها ومصالحها في رقعة دولية قيد إعادة التشكل. وهو نافع أيضا من زاوية ذلك الالتفاف الجماعي حول الدولة، وأيضا من منطلق استعادة هذه الدولة لأدوارها الكلاسيكية التي تعاقد معها حولها الأفراد.

لقد تقبل الناس أن ترفع الطوارئ الصحية من سلطات الدولة مقابل أن يؤدي الحجر الصحي إلى تقييد حرياتهم، وبدؤوا يضعون ثقتهم في بلاغات الدولة وقراراتها، والموظفون العموميون الذي كانوا موضوع تذمر لا متناهي صاروا يحصدون الإعجاب والتعاطف: من القايدة حورية إلى الأطباء، ومن الممرضين إلى قوات الأمن، ومن المعلمين والأساتذة إلى موظفي الاقتصاد والمالية…

ومن إيجابيات الوباء أن صارت أوامر الدولة الأكثر تشددا مطاعة بالقبول والرضى، ولأول مرة تجد السلطات من يناصرها من داخل المجتمع ضد حمقى المجتمع، وحين وزعت وظائف الرعاية على ضحايا الهشاشة الاجتماعية والكساد المهني، نظر إليها الناس بتقدير وتعاطف كبيرين كما لو أنها المرة الأولى التي تعطي فيها الدولة بعدما ما كانت تأخذ باستمرار أو تتلكأ في العطاء.

ولا يعرف الناس إلى أين يسيرون بعد الوباء وكيف سيستعيدون شغلهم ونشاطهم ونمط حياتهم ومستواهم المعيشي، لكنهم يضعون ثقتهم في الدولة وفي قدرات الدولة، إنه لمن النادر في تاريخنا أن تسجل اللحظات التلفزيونية لمسؤولي الدولة نسب مشاهدة عالية، هي الحالة التي يصير فيها للدولة حضور في حياة الناس بعيدا عن الحضور القهري الذي عادة ما نفروا منه أو نددوا به.

من يريد أن يرى كيف تغير عقل الدولة وعواطفها، ما عليه سوى أن يقرأ مداخلات وزير الداخلية عبد الوافي لفتيت في لجنة الداخلية بمجلس النواب، وأخيرا صار لـ«المخزن» خطاب إنساني يربط مصير الدولة بمصير الناس، ويقول إننا في نفس المركب.

لقد تفاجأت الدولة بـ«الربيع العربي» الذي أخضعها لريجيم مباغت، وها هي تتفاجأ بالوباء الذي أعادها إلى ثقلها التاريخي وإلى الواجهة من جديد، غير أن التراكم الكبير والمباغت في أسهم الدولة في بورصة المواطنة، يتعرض لخطر التبديد والاستنزاف، لقد كانت الحكومات والسياسيين دائما، تلك الكائنات التي تخذل الدولة كما تخذل مواطنيها.

وها نحن نرى الحكومة التائهة المترددة تطيل أمد الأزمة وزمن نزيف خسائر الاقتصاد التي تصل إلى مليار درهم كل يوم، إنها لا تملك من تصور غير إطالة الحجر الصحي والطوارئ الصحية، لكنها لم تعرض علينا بعد تصورا للعبور نحو عوالم ما بعد الأزمة. ونفس الحكومة التي يجد رئيسها صعوبة في الحديث إلى الناس بالمفيد من الكلام هي أقل تواصلا من رجال السلطة، وكما ترك «الوزراء عن بعد» صلاحياتهم لحكومة مصغرة، تركوا أيضا أدوار التأطير للشيوخ والمقدمين والقياد، والتدبير المحلي للخروج من الوباء استحوذت عليه الهيئات غير المنتخبة… وبينما كان يجب للوباء أن يكون فرصة لتدعيم حضور الدولة، كان مناسبة لتفتيتها وإحالتها على الهامش.

وقد رأينا كيف أن الوزراء الأكثر حيوية ودينامية صاروا يشتغلون مع الدولة أكثر من اشتغالهم مع الحكومة، حتى أن وزراء مثل محمد بنشعبون وسعيد أمزازي وحفيظ العلمي… لديهم اطلاع على تفاصيل السياسات العمومية لما بعد كوفيد 19 أكثر مما لدى رئيس الحكومة نفسه، ولولا الخوف من التعسف في التوصيف، لقلنا إن الحكومة صارت عبئا على الدولة.

وبينما تحيي الدولة زفاف استعادة الثقة فيها، كانت الحكومة تنصب خيم العزاء في «تدابير السلطوية الجديدة»، لقد فهمت من انضباط المغاربة للطوارئ الصحية أنها فرصتها الذهبية لمزيد من الإخضاع، فكانت حكاية قانون تكميم الأفواه التي تعرفون باقي تفاصيلها التي وصلت إلى التشكيك في نوايا الدولة.

وبينما لم تطو هذه الصفحة إلا بمشقة الأنفس، جاء رئيس الحكومة إلى التلفزيون العمومي ليظهر الوجه الضعيف للسلطة المنتخبة، وليلة انتظار المغاربة لتفاصيل تمديد الحجر الصحي تركهم الرئيس يواجهون أسئلتهم بقلق وتوجه نحو الإعلام القطري للحديث في أمر يهم الشأن الوطني.

وقد كانت أقصى درجات تبديد سياسيي الحكومة لرصيد الثقة في الدولة، ردود فعلهم المتشنجة على فكرة الحكومة التقنقراطية وكذلك على فكرة حكومة الوحدة الوطنية، لم يقارعوا الفكرة بنقيضها، لكنهم اختاروا طريقهم الأسهل دائما: التشكيك في نوايا الدولة، وفي جهات في الدولة، وهكذا وبجرة قلم، ومن أجل الدفاع عن مصالح حكومية يمكن للسياسي أن يضحي، ويتاجر في سوق الشعبوية والبراغماتية الخاصة برمزية الدولة ومصداقيتها.

ثم حدث، أيضا، وعلى غرار «قانون تكميم الأفواه» في التواصل الاجتماعي، من رأى في انضباط المغاربة للطوارئ الصحية فرصته لإخضاعهم لقهرية التصويت الإجباري، الأمر يشبه قصة رجل أقام عرسا، لكنه لم يحضر فرقة موسيقية نشطة ولا أي شكل من أشكال الفرجة، ولا أعد أكلا جيدا، ومع ذلك يريد أن يجبر الناس على الحضور في حفل زفاف ليس فيه ما يغري بالمشاركة فيه.

هل نزيد في توسيع لائحة الحماقات الحزبية في تبديد الفرص الذهبية لاستعادة الدولة للثقة فيها؟ يكفي أن نلقي إطلالة على ما يقع داخل حزب الأصالة والمعاصرة ونقرأ التصريحات الغربية لأمينه العام، ويكفينا أن نطالع في الأسبوع الذي ودعناه عمليات التراشق السياسي والإعلامي بين الحلفاء الحكوميين… حتى ننتهي إلى أن السياسيين يجيدون لعبة واحدة: دفع الناس إلى الكفر بالسياسة وبالدولة.

الدولة والشعب لم يجدا بعد الحكومة التي يستحقانها، وبسبب ذلك تضيع على الدولة فرصة ذهبية لاستعادة ثقة لن تتكرر لها مستقبلا، لكن السياسيين وسكان الحكومة لا يفكرون في هذا الأفق الاستراتيجي البعيد، إن أقصى ما يصل إليه عقلهم وطموحاتهم هو شتنبر أو أكتوبر 2021 ذلك الموعد المنتظر لاجترار نفس أعطاب العشر سنوات الماضية.