حسنا فعلت "الجمعية الوطنية للإعلام والناشرين"، إذ رفضت كل دعوات الحضور إلى مختلف البرامج التي قالت إنها تريد مناقشة ما يقع في المشهد الصحفي المغربي اليوم، ونأت بنفسها عن الوقوع والسقوط فيما وقع وسقط فيه مختلف زملائنا الذين قبلوا - عن حسن نية أو عن غير ذلك- التورط في هذه البرامج.
ذلك أن كل ما التقطه الناس، بعد كل هذه البرامج والفيديوهات والبودكاستات عن الصحافة وقبيلتها، هو أمر سلبي وسيء للغاية.
لذلك يمكن القول بهدوء واطمئنان أن كل هذه الخرجات، منذ بدأ النقاش حول مشروع قانون المجلس الوطني للصحافة، آتت بالنقيض من المراد منها: أي زادت من تعتيم الوضع، وتضبيب الرؤية، وتضليل الرأي العام، وتنفيره نهائيا من صحافة وصحافيي المغرب، وإقناعه بشكل أخير ونهائي بألا أمل يرجى من قبيلة الصحافيين هذه.
googletag.cmd.push(function() { googletag.display('div-gpt-ad-1667386526530-0'); });
وحتى نقابتنا، النقابة الوطنية للصحافة المغربية، التي كان يفترض بها أن تكون ملاذنا الأخير في لحظة التيه هاته، والإطار الجامع لنا الذي يحمينا من فرقة وشتات وصراع الإطارات الأخرى، لعبت الشياطين بعقلها وبحكمتها حتى صارت محكمة تفتيش، تطرد من صفوفها الصحافيين لاختلافهم مع قيادتها في الرأي، عوض أن تشغل بالها بالشيء الوحيد الذي صنعت النقابات العمالية لأجله منذ القديم: الدفاع عن مصالح المهنيين الذين تمثلهم ماديا ومعنويا.
لنقل باختصار إننا جميعا فشلنا في عملية التنظيم الذاتي لمهنتنا، لكننا جميعا نجحنا، وبتفوق غبي نحسد عليه فعلا، في عملية الجلد الذاتي لهذه الحرفة المسكينة.
لنقل أيضا إن بداية الهوان لم تكن مشروع قانون المجلس، ولا هي التسريب بالطريقة غير القانونية وغير الأخلاقية الذي تم، ولا هي هذا الصراع الضاري حول مال الدعم وحول المناصب وحول المكتسبات الفردية والمواقع الشخصية، فيما المهنة تموت وأهلها ينتظرون الدفن فقط، إما من باب الإكرام لهم، أو من باب الانتهاء من سحناتهم غير اللطيفة كثيرا، والمرور إلى شيء آخر أرفع يليق بالمغرب، ويستحق حقا الاهتمام.
لا، الوهن كل الوهن ابتدأ يوم قبل جزء منا بسحل الجزء الآخر، والتفرج فيه وعليه وهو يتعرض لظلم كبير دون أي يصيح أي واحد من هؤلاء الصارخين الكاذبين اليوم، أصحاب إسهال العرائض: اللهم إن هذا منكر.
بالعكس فرح هؤلاء الذين يخيفهم ويرعبهم ويقض مضجعهم التشهير- حسب زعمهم - بكل التشهير الخطير، بل والتحريض على القتل والمساس بالسلامة الجسدية الذي تعرض له زملاء لا يوافقونهم الرأي، فابتسموا بخبث دفين وقالوا: "لم آمر بها ولم تسؤني"، وتابعوا شامتين الأحداث والحوادث وهم يضحكون.
هل تتذكرون - حماة الأخلاقيات الجدد - زعيم حزب "العدالة والتنمية"، وهو يردد من على المنصات العلنية، وأمام كل وسائل الإعلام شتائم "الحشرات والكلاب والحمار"، في حق صحافيين مغاربة؟ هل تتذكرونه وهو يقول بساطة لهؤلاء الصحافيين "أنتم خونة، أنتم خارجون عن الملة"؟
في الغالب لا تتذكرون، لأننا ابتلينا بذاكرة انتقائية مريضة، تتضامن مع من تشاء، وتنظر بـ(عين ميكة) لمن تشاء.
يومها قال مسؤول مطلع على غير قليل من شؤون الصحافة لكاتب هذه الأسطر: "هل تعلم أن زملاء لكم في منظمات مهنية يطلبون عبر وسائط مختلفة من ابن كيران ألا يتوقف؟ هل تعلم أنهم يعتقدون حقا أنها الطريقة المثلى لإسقاطكم؟ وهل تعلم أنهم يحلمون ليل نهار فقط بهذا الإسقاط؟".
أجبته يومها أنني اخترت في الحياة مبدأ عدم العلم بالرديئات ومنغصات العيش لكي أستطيع الاستمرار في التعايش، وأن الأمر لا يدهشني كثيرا، لأنني أعرف الطبيعة الإنسانية والنفس الأمارة بالسوء قليلا، لكنني في الوقت ذاته أتوقع سوءا كثيرا قادما إلى المهنة، على يد هؤلاء الذين يقولون علنا إنهم يدافعون عنها وعن حريتها وعن توسيع كل الهوامش الخاصة بها، لكنهم في الحقيقة وفي السر أكثر ديكتاتورية من أبشع الطغاة الذين مروا في تاريخ الإنسانية كلها، ولا يتقبلون انتقادا صغيرا حتى للون جواربهم، أو "التقاشر" التي يرتدونها حسب التعبير الشهير لوهبي وزير العدل.
توقعت بعدها أن القادم لن يكون إلا أسوأ، وها نحن فيها الآن، عالقون داخلها، يسب بعضنا بعضا، ويفضح بعضنا بعضا، ويغتاب بعضنا بعضا، ويصور بعضنا بعضا، ويسرب بعضنا لبعضنا عن بعضنا أسوأ الأسرار، ويوصل الوشاية عن بعضِنا بعضُنا إلى البعض الآخر، وإلى كل من يهمهم وحتى من لا يهمهم أمر مهنتنا.
ما العمل مرة أخرى؟ ما الحل مع هذه الكائنات التي لاترى إلا "ربيع المناصب"، ولا تلمح "حافة السقوط"؟
لأول مرة أقولها، وأعلن تنازلي - بالإكراه وتحت تهديد سلاح الكره والضغينة الذي يشهره في وجوهنا الضيقون العاجزون عن رحابة العقل والقلب والخاطر - عن تفاؤلي الأبدي والدائم، وأعترف أن الزملاء والزميلات، نجحوا فعلا، وباقتدار غبي، أكررها، في دفعي إلى الإيمان بألا أمل يرجى فيهم، وأن السيف اللعين سبق العتاب والعذل واللوم وكل الكلام، سواء كان مكتوبا أم مسموعا أم مصورا رفقة المونتاج والتوضيب الاحترافيين، وباستعمال تقنية الزوم الرفيعة، أم كان مصورا على عجل ولهفة يريد فقط جمع شتات يصعب اليوم حقا تصور إمكانية جمعه فعلا.
من انهزم؟
التنظيم الذاتي.
من انتصر؟
الجلد الذاتي.
من تضرر مجددا وسيواصل التضرر والعيش مع وداخل وفي الضرر؟