الجلد الذاتي عوض التنظيم الذاتي! ‏

بقلم: المختار لغزيوي الأحد 14 ديسمبر 2025
597499596_876334448235158_468815690940113391_n
597499596_876334448235158_468815690940113391_n

حسنا فعلت "الجمعية الوطنية للإعلام والناشرين"، إذ رفضت كل دعوات الحضور إلى مختلف ‏البرامج التي قالت إنها تريد مناقشة ما يقع في المشهد الصحفي المغربي اليوم، ونأت بنفسها عن ‏الوقوع والسقوط فيما وقع وسقط فيه مختلف زملائنا الذين قبلوا - عن حسن نية أو عن غير ذلك- ‏التورط في هذه البرامج. ‏

ذلك أن كل ما التقطه الناس، بعد كل هذه البرامج والفيديوهات والبودكاستات عن الصحافة وقبيلتها، هو ‏أمر سلبي وسيء للغاية. ‏

لذلك يمكن القول بهدوء واطمئنان أن كل هذه الخرجات، منذ بدأ النقاش حول مشروع قانون المجلس ‏الوطني للصحافة، آتت بالنقيض من المراد منها: أي زادت من تعتيم الوضع، وتضبيب الرؤية، ‏وتضليل الرأي العام، وتنفيره نهائيا من صحافة وصحافيي المغرب، وإقناعه بشكل أخير ونهائي بألا ‏أمل يرجى من قبيلة الصحافيين هذه. ‏

وحتى نقابتنا، النقابة الوطنية للصحافة المغربية، التي كان يفترض بها أن تكون ملاذنا الأخير في لحظة ‏التيه هاته، والإطار الجامع لنا الذي يحمينا من فرقة وشتات وصراع الإطارات الأخرى، لعبت ‏الشياطين بعقلها وبحكمتها حتى صارت محكمة تفتيش، تطرد من صفوفها الصحافيين لاختلافهم مع ‏قيادتها في الرأي، عوض أن تشغل بالها بالشيء الوحيد الذي صنعت النقابات العمالية لأجله منذ القديم: ‏الدفاع عن مصالح المهنيين الذين تمثلهم ماديا ومعنويا. ‏

لنقل باختصار‎ ‎إننا جميعا فشلنا في عملية التنظيم الذاتي لمهنتنا، لكننا جميعا نجحنا، وبتفوق غبي نحسد ‏عليه فعلا، في عملية الجلد الذاتي لهذه الحرفة المسكينة. ‏

لنقل أيضا إن بداية الهوان لم تكن مشروع قانون المجلس، ولا هي التسريب بالطريقة غير القانونية ‏وغير الأخلاقية الذي تم، ولا هي هذا الصراع الضاري حول مال الدعم وحول المناصب وحول ‏المكتسبات الفردية والمواقع الشخصية، فيما المهنة تموت وأهلها ينتظرون الدفن فقط، إما من باب ‏الإكرام لهم، أو من باب الانتهاء من سحناتهم غير اللطيفة كثيرا، والمرور إلى شيء آخر أرفع يليق ‏بالمغرب، ويستحق حقا الاهتمام. ‏

لا، الوهن كل الوهن ابتدأ يوم قبل جزء منا بسحل الجزء الآخر، والتفرج فيه وعليه وهو يتعرض لظلم ‏كبير دون أي يصيح أي واحد من هؤلاء الصارخين الكاذبين اليوم، أصحاب إسهال العرائض: اللهم إن ‏هذا منكر. ‏

بالعكس فرح هؤلاء الذين يخيفهم ويرعبهم ويقض مضجعهم التشهير- حسب زعمهم - بكل التشهير ‏الخطير، بل والتحريض على القتل والمساس بالسلامة الجسدية الذي تعرض له زملاء لا يوافقونهم ‏الرأي، فابتسموا بخبث دفين وقالوا: "لم آمر بها ولم تسؤني"، وتابعوا شامتين الأحداث والحوادث وهم ‏يضحكون. ‏

هل تتذكرون - حماة الأخلاقيات الجدد - زعيم حزب "العدالة والتنمية"، وهو يردد من على المنصات ‏العلنية، وأمام كل وسائل الإعلام شتائم "الحشرات والكلاب والحمار"، في حق صحافيين مغاربة؟ هل ‏تتذكرونه وهو يقول بساطة لهؤلاء الصحافيين "أنتم خونة، أنتم خارجون عن الملة"؟ ‏

في الغالب لا‎ ‎تتذكرون، لأننا ابتلينا بذاكرة انتقائية مريضة، تتضامن مع من تشاء، وتنظر بـ(عين ‏ميكة) لمن تشاء. ‏

يومها قال مسؤول مطلع على غير قليل من شؤون الصحافة لكاتب هذه الأسطر: "هل تعلم أن زملاء ‏لكم في منظمات مهنية يطلبون عبر وسائط مختلفة من ابن كيران ألا يتوقف؟ هل تعلم أنهم يعتقدون ‏حقا أنها الطريقة المثلى لإسقاطكم؟ وهل تعلم أنهم يحلمون ليل نهار فقط بهذا الإسقاط؟".‏

أجبته يومها أنني اخترت في الحياة مبدأ عدم العلم بالرديئات ومنغصات العيش لكي أستطيع الاستمرار ‏في التعايش، وأن الأمر لا يدهشني كثيرا، لأنني أعرف الطبيعة الإنسانية والنفس الأمارة بالسوء قليلا، ‏لكنني في الوقت ذاته أتوقع سوءا كثيرا قادما إلى المهنة، على يد هؤلاء الذين يقولون علنا إنهم يدافعون ‏عنها وعن حريتها وعن توسيع كل الهوامش الخاصة بها، لكنهم في الحقيقة وفي السر أكثر ديكتاتورية ‏من أبشع الطغاة الذين مروا في تاريخ الإنسانية كلها، ولا يتقبلون انتقادا صغيرا حتى للون جواربهم، أو ‏‏"التقاشر" التي يرتدونها حسب التعبير الشهير لوهبي وزير العدل.‏

توقعت بعدها أن القادم لن يكون إلا أسوأ، وها‎ ‎نحن فيها الآن، عالقون داخلها، يسب بعضنا بعضا، ‏ويفضح بعضنا بعضا، ويغتاب بعضنا بعضا، ويصور بعضنا بعضا، ويسرب بعضنا لبعضنا عن ‏بعضنا أسوأ الأسرار، ويوصل الوشاية عن بعضِنا بعضُنا إلى البعض الآخر، وإلى كل من يهمهم ‏وحتى من لا يهمهم أمر مهنتنا. ‏

ما العمل مرة أخرى؟ ما الحل مع هذه الكائنات التي لاترى إلا "ربيع المناصب"، ولا تلمح "حافة ‏السقوط"؟ ‏

لأول مرة أقولها، وأعلن تنازلي - بالإكراه وتحت تهديد سلاح الكره والضغينة الذي يشهره في وجوهنا ‏الضيقون العاجزون عن رحابة العقل والقلب والخاطر - عن تفاؤلي الأبدي والدائم، وأعترف أن ‏الزملاء والزميلات، نجحوا فعلا، وباقتدار غبي، أكررها، في دفعي إلى الإيمان بألا أمل يرجى فيهم، ‏وأن السيف اللعين سبق العتاب والعذل واللوم وكل الكلام، سواء كان مكتوبا أم مسموعا أم مصورا ‏رفقة المونتاج والتوضيب الاحترافيين، وباستعمال تقنية الزوم الرفيعة، أم كان مصورا على عجل ‏ولهفة يريد فقط جمع شتات يصعب اليوم حقا تصور إمكانية جمعه فعلا. ‏

من انهزم؟ ‏

التنظيم الذاتي.‏

من انتصر؟

الجلد الذاتي.‏

من تضرر مجددا وسيواصل التضرر والعيش مع وداخل وفي الضرر؟ ‏