مر تدبير ملف الصحراء المغربية بالعديد من المحطات الساخنة، والتي لعب فيها الإنفاق السخي لنظامي هواري بومدين والقذافي دورا مؤثرا في القرارات التي صدرت عقب الخطيئة/ الفضيحة التي تم عبرها الاعتراف بكيان غير موجود، كعضو في منظمة الوحدة الإفريقية، في واحدة من أغرب القرارات التي تم سجلت بالعار في سجل هذا المنتظم القاري.
القرار الغريب الذي تم بموجبه اعتبار كيان، لا أرض له، يصبح عضوا في منظمة الوحدة الإفريقية، كان له الأثر الكبير في مسار هذا النزاع المفتعل، وكان من نتائجه تطويل أمد هذا الملف لنصف قرن من الزمن، بعد أن تحول إلى قضية شائكة، نجح المغرب في النهاية في حلها بحكمة جلالة الملك، وجر الكثيرين ممن كانوا يعترفون بهذا الكيان للتبرؤ منه، وسحب الاعتراف به.
بداية الخطيئة
googletag.cmd.push(function() { googletag.display('div-gpt-ad-1667386526530-0'); });
بعد تأسيس جبهة البوليساريو من قبل عدد من الطلبة المتحدرين من الصحراء المغربية، والذين كانوا يدرسون في جامعة الرباط، ساعين من خلال هذا التنظيم الاستقلال عن المستعمر الإسباني، جاءت المسيرة الخضراء، والتي مكنت المغرب من استعادة هذا الجزء من أرضه.
وفي الوقت الذي كانت المملكة تصارع من أجل تثبيت وحدتها الترابية وتطبيع علاقتها مع إسبانيا، المستعمر السابق للجنوب المغربي، تحركت أيادي الغدر ممثلة في نظامي الجزائر وليبيا، وبدأت تحيك المؤامرات من أجل إفشال المخطط المغربي، باستكمال وحدته الترابية، عبر استغلال جبهة البوليساريو، وتحويلها لأداة تطعن من خلالها المغرب، وتفشل مسيرته نحو الوحدة.
كانت البداية هي تحويل هذا الوليد الساعي للاستقلال عن إسبانيا تحت السيادة المغربية لمطالب بالاستقلال عن المغرب، وفي هذا السياق اشتغلت الآلة الديبلوماسية لنظامي بومدين والقذافي، وتم العمل، باستغلال الأموال التي كانت تحت أيديهم، من أجل تنفيذ هذا المخطط.
ففي يناير من سنة 1976، وخلال اجتماع لجنة التحرير التابعة لمنظمة الوحدة الإفريقية في مابوتو بالموزمبيق تم الاعتراف بجبهة البوليساريو كـ«حركة تحرير إفريقية»، لتشكل تلك البداية نحو تثبيت مخطط الانفصال عن المغرب، قبل الدفع بالجبهة لتشكيل كيان «الجمهورية العربية الصحراوية الديموقراطية»، تمهيدا لمرحلة العضوية في المنتظم القاري.
وبعد هذه المرحلة، شكل مؤتمر منظمة الوحدة الإفريقية بالعاصمة السودانية في يوليوز 1978 مرحلة أخرى في هذه الخطة، حين طالب قادة الدول المشاركة بوقف العمليات العسكرية التي كانت الصحراء تشهدها، وأوصوا بضرورة البحث عن حل سياسي للنزاع، كما تم إنشاء لجنة حكماء من خمسة رؤساء، ضمت السودان وغينيا ومالي ونيجيريا وتنزانيا، عهد إليها بدراسة ملف النزاع، وتقديم اقتراحات وتوصيات محددة للقمة اللاحقة.
وتواصل لاحقا طبخ هذه الخطة، بفعل سياسة شراء الذمم من قبل نظامي الجزائر وليبيا، حيث أوصت قمة 1979 بالعاصمة الليبيرية بـ«ممارسة شعب الصحراء الغربية حقه في تقرير مصيره من خلال استفتاء عام وحر»، ثم توصية القمة اللاحقة في 1980 بالعاصمة السيراليونية بضرورة الإسراع بتنظيم استفتاء حر لتحديد مصير المنطقة.
واستطاعت هذه الاصطفافات الإفريقية داخل منظمة الوحدة الإفريقية أن تحاصر المغرب، بعد أن نجحت دولارات الغاز الجزائري والنفط الليبي في تأليب عدد من القادة الأفارقة ضد المغرب، ليقرر الملك الراحل الحسن الثاني، الانتقال لمرحلة جديدة من المواجهة، عبر إعلانه قبول تنظيم الاستفتاء في الصحراء، في قرار كانت له تبعات داخلية، من خلال موقف الراحل عبد الرحيم بوعبيد، الذي أعلن رفض حزب الاتحاد الاشتراكي لهذا القرار.
قرر الراحل الحسن الثاني أن يكون الإعلان عن القرار علنيا، لذلك حضر قمة نيروبي سنة 1981، وقال أمام قادة منظمة الوحدة الإفريقية «إننا نريد بكل ما لإرادتنا من قوة إنقاذ مجموعتنا الإفريقية من كل ما من شأنه أن يهددها بالانفجار والتمزق، ومن أجل أننا نريد دون كلل أو سأم أن نحافظ لفائدة منظمة الوحدة الإفريقية وهي تقابل العالم كله على صورتها كمنظمة متماسكة واعية ومسؤولة، فإننا قررنا أن نأخذ بعين الاعتبار مسطرة استفتاء مراقب تراعي شروطه التطبيقية في آن واحد أهداف التوصيات الأخيرة الصادرة عن اللجنة الخاصة: لجنة الحكماء، وما للمغرب من اقتناع بحقوقه المشروعة».
القبول الرسمي للمغرب بتنظيم الاستفتاء، استتبعه تشكيل لجنة تنفيذية مؤلفة من غينيا وكينيا ومالي ونيجريا وسراليون والسودان وتنزانيا، منحت لها سلطات كاملة، لتكفل بالتعاون مع الأطراف المعنية تنفيذ توصيات اللجنة المخصصة.
وفي سياق محاولة الملك الراحل خلط أوراق الخصوم، أعلن عن رغبة المملكة في إشراك الأمم المتحدة في هذه العملية، خوفا من انزلاقات منظمة الوحدة الإفريقية، التي كانت تحت نفوذ الجزائر وليبيا، كما أبدى تماهي المغرب مع هذا القرار، وقال في تدخله أمام لجنة المتابعة الإفريقية يوم 24 غشت 1981 إن «المغرب ليس على استعداد فحسب بل أكثر من ذلك فهو راغب في أن يكون إلى جانبه أشقاؤه الأفارقة للسهر على كل عمليات هذا الاستفتاء من البداية إلى النهاية».
كما ذهب الراحل في سعيه لمواجهة مخطط الخصوم لإقحامهم مباشرة في هذه اللعبة، حيث كانوا يرغبون في فتح مفاوضات مباشرة بين المغرب والبوليساريو، ليطالب بدل ذلك بإجراء مفاوضات مع الجزائر وموريتانيا باعتبارهما أطرافا في النزاع ودولتين معترفا بهما. وقال: «إن المغرب يعتمد على إجراء مفاوضات مباشرة مع الجزائر وموريتانيا، من جهة، والجزائر وموريتانيا من جهة أخرى، أن تلتزم كلها بسد أو إغلاق حدودها أو جعلها حاجزا محكما لكي يمنع كل جانب الغارات التي قد تشن من حدوده».
وأفشلت هذه الخطة مناورات الخصوم، حيث بدأت الخلافات تظهر حول آليات تنفيذ الاستفتاء، سواء ما تعلق منها بمن يحق لهم التصويت، أو بالخيارات التي ستوضع أمام المصوتين، وكذا رفض المغرب لإقامة أية إدارة مؤقتة في الإقليم، والتي كان يراد لها أن تتحول بفعل الأمر الواقع نحو تحقيق رغبة الخصوم في سحب إدارة الصحراء من المغرب.
وأمام فشل مخطط الخصوم، كانت الخطة تنتقل لمرحلة أخرى من المواجهة، حين شكلت الدورة الثامنة والثلاثين لمجلس وزراء الخارجية الأفارقة المنعقد في أديس أبابا بإثيوبيا، سنة 1982، مناسبة للإعلان عن قبول طلب «الجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية» كعضو كامل العضوية في منظمة الوحدة الإفريقية بعد موافقة 26 دولة من الأعضاء لتصبح بذلك العضو الواحد والخمسين في منظمة الوحدة الإفريقية.
وخلال قمة منظمة الوحدة الإفريقية المنعقد في 12 نونبر من سنة 1984 بالعاصمة الإثيوبية أديس أبابا، حضر لأول مرة وفد يمثل «الجمهورية الصحراوية» يقوده زعيم جبهة البوليساريو الراحل محمد عبد العزيز، وهو ما جعل المغرب يقرر الانسحاب من المنظمة، مفضلا اتباع سياسة المقعد الشاغر، عوض المشاركة في مسرحية مفضوحة.
العودة المظفرة
من سنة 1984، تاريخ انسحاب المغرب من منظمة الوحدة الإفريقية، وسنة 2017 تاريخ العودة المظفرة لشغل مقعد المملكة في الاتحاد الإفريقي، مرت 33 سنة، كانت مليئة بالعديد من المتغيرات على مستوى قضية الصحراء المغربية، وعلى مستوى مكانة المملكة في القارة الإفريقية.
غادر المغرب مقعده في وقت كان فيه النفوذ الجزائري والليبي في أوج قوته، ونجح فيه في محاصرة المملكة، لكنه عاد بعد ذلك بعد أن استفاد من هذا الدرس جيدا، وعاد بقوة مكتسحا كل المطبات التي تم تشييدها طيلة هذه الفترة، فارضا شروطه ومغيرا قواعد اللعبة، متوجا بإنجازاته وسياساته، ثم مكانته قاريا وعالميا.
في قمة أديس أبابا في يناير 2017، شكلت العودة المغربية حدثا بارزا في تاريخ هذا المنتظم القاري، كما شكل الخطاب الملكي لحظة فارقة في هذا التاريخ، حين أعلن جلالته بأسلوب بديع عن هذه العودة، وهو يخاطب القادة الأفارقة بقوله «كم هو جميل هذا اليوم، الذي أعود فيه إلى البيت، بعد طول غياب! كم هو جميل هذا اليوم، الذي أحمل فيه قلبي ومشاعري إلى المكان الذي أحبه! فإفريقيا قارتي، وهي أيضا بيتي».
عاد المغرب، لكن هذه العودة لم تكن مجرد شغل مقعد شاغر، بل كانت عودة لإعادة ترتيب وبناء قارة حقيقية، قائمة على بناء صلب من الجدية والتفاني في تحقيق مصالح شعوبها، بعيدا عن الصراعات التي قسمت أوصالها وجعلتها لقمة سائغة في يد القوى المتصارعة على خيراتها.
عاد المغرب لمكانته، بعد أن كان جلالة الملك قد هيأ الظروف لتنظيف مخلفات سنوات من الفساد والإفساد الذي نشرته الجزائر وليبيا، باستغلالهما خيرات شعوبهما، من أجل المتاجرة في حاضر ومستقبل القارة، وكانت البداية لذلك منذ الزيارات الطويلة للعمق الإفريقي، والتي شكلت بداية إعادة توحيد القارة وإصلاح مسارها.
وشكلت هذه الزيارات الطويلة لجلالة الملك رؤية واضحة لدور المغرب في إعطاء زخم اقتصادي وتنموي لشعوب القارة، عبر توقيع أزيد من ألف اتفاقية واتفاقيات تعاون وشراكات متعدد من بلدان القارة، وإعطاء انطلاقة العديد من المشاريع الكبرى المهيكلة، في مجالات استراتيجية وحيوية كالفلاحة والطاقة والسكن والمالية.
وأقنع هذا التوجه الملكي دول القارة بحقيقة من يسعى للبناء، ومن يقف وراء مشاريع الهدم، وهو ما بدا واضحا من خلاصات تقارير عديدة، حتى في جنوب إفريقيا، التي تعادي المغرب، حين اعتبر معهد الدراسات الأمنية في بريتوريا هذه العودة بمثابة الخبر السار، وقال إن «المغرب بإمكانه تقديم مساهمة كبيرة للاتحاد الإفريقي وللقارة».
كما رسم جلالة الملك المسار الذي ينبغي اتباعه بخطاب تاريخي ألقاه نيابة عن جلالته صاحب السمو الملكي الأمير مولاي رشيد خلال القمة الـ29 للاتحاد الإفريقي التي انعقدت بالعاصمة الإثيوبية، بتجديده التأكيد على إرادة المغرب في أن يساهم في إقلاع إفريقيا جديدة «إفريقيا قوية وجريئة تدافع عن مصالحها؛ وإفريقيا مؤثرة على الساحة الأممية»، وتأكيد جلالته أنه «من أجل تحديد معالم إفريقيا الجديدة هذه يتعين علينا التحرر من كل الأوهام».
وضمن هذه الأوهام التي أعلن جلالة الملك الحرب عليها، تلك المرتبطة باستغلال فقر شعوب المنطقة من أجل فرض أجندات سياسية، مثلما حدث مع ملف الصحراء، الذي قسم القارة لنصف قرن من الزمن، لتكون الخاتمة مسك، عبر عودة الحق لأصحابه، لكنه مع ضرورة استخلاص الدروس، وهو ما عبر عنه جلالته في ذات الخطاب بقوله أن «إفريقيا الجديدة التي نتطلع بشغف إلى تحقيقها، لا بد أن تنطلق من نظرة ملموسة وواقعية، بإمكانها أن تفرز قارة إفريقية مبادرة ومتضامنة»، لتشكل هذه العودة المغربية بداية عهد جديد لإفريقيا متحررة من الشعارات الإديولوجية التي أجهضت كل تطلع للتنمية بالقارة.