حنان رحاب تكتب: الدعم المالي لترشيحات الشباب بين نبل الغاية وخلل الوسيلة

‎ رحاب حنان الأحد 26 أكتوبر 2025
566567514_1515671386222156_4765822474355429740_n
566567514_1515671386222156_4765822474355429740_n

لا يختلف اثنان حول ضرورة تشبيب العمل السياسي، كما تأنيثه، إذ رغم المساهمة الكبيرة لهاتين الفئتين في النسيج الاقتصادي، ورغم نسبتهما المتقدمة في الهرم الديموغرافي، إلا أن تمثيليتهما في المؤسسات السياسية، وخصوصا المنتخبة منها، لا يوازي حجم حضورهما في مختلف الأنساق والبنيات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية.

وإذا كان المشرع قد حاول أن يسد ثغرة ضعف التمثيلية السياسية للنساء بالالتجاء إلى التمييز الإيجابي عبر اللوائح الوطنية ثم الجهوية لاحقا، المخصصة حصرا للنساء، فإن ضمان تمثيلية مناسبة للشباب ظل دوما مثار التباس في الوسيلة، بعد تبين النتائج المحدودة للوائح الشباب، ولذلك فإن المقترح الحكومي الحالي بتخصيص دعم مالي للوائح الشباب دون الخامسة والثلاثين يندرج في هذا السياق الوطني الداعم لتمثيلية مشرفة للشباب، غير أن مجموعة من الأسئلة تنطرح لتسائل الوسيلة لا الغاية.

‎فتخصيص دعم مالي للشباب دون الخامسة والثلاثين من العمر، سواء كانوا من المنتمين أو اللامنتمين، الراغبين في خوض غمار الانتخابات التشريعية، لا يمكن قراءته إلا في سياق إعادة ترميم العلاقة المتصدعة بين الدولة والسياسة، وبين الشباب والتمثيلية. فمن حيث الشكل يبدو القرار خطوة متقدمة، ومن حيث المضمون يحمل رسالة رمزية عميقة مفادها أن الدولة أدركت أخيرا أن تجديد النخب لا يكون بالإدماج القسري للتكنوقراط، بل بتوسيع قاعدة المشاركة السياسية للشباب. غير أنه من حيث الجوهر، تظل الأسئلة المقلقة قائمة: هل نحن أمام تحفيز ديمقراطي حقيقي يروم توسيع التمثيلية السياسية للشباب، أم أمام محاولة لتلميع الواجهة التمثيلية دون تغيير جذري في البنية التي تنتج العزوف واللامبالاة وتقف حائلا دون تجديد النخب في المؤسسات التمثيلية؟

‎لقد أدركت الدولة أن بنية المشهد السياسي المغربي أصابها الجمود البنيوي، والبرلمان فقد جاذبيته لدى فئة واسعة من الشباب.

‎لكن بدل أن يفتح نقاش وطني حول إصلاح القنوات الوسيطة نفسها، أي الأحزاب والنقابات والمجتمع المدني، جرى اللجوء إلى مقاربة "مالية" تغري الشباب بالدعم بدل أن تخاطبهم بالثقة وتقنعهم بضرورة اقتحام المجالين الحزبي والانتخابي.

‎إن تشبيب النخب لا يقاس بالعمر الزمني بل بالعمر السياسي للأفكار، فليس كل من كان شابا في بطاقته يحمل مشروعا شبابيا، كما أن كثيرا من “ الكهول السياسيين” يمتلكون حسا تجديديا لا نجده لدى بعض الوجوه الشابة التي تستعمل كديكور انتخابي، ولعل تجربة اللوائح الانتخابية للشباب سابقا أظهرت هذا العطب بوضوح، بحيث وجدنا أن قلة من البرلمانيين الشباب آنذاك أبانوا عن رؤى تجديدية نابعة من تصورات سياسية محكمة، إذ للأسف تم إغراق تلك اللوائح ب"ملحقين" لأعيان الانتخابات بالقرابة أو المصلحة.

‎إن إدراج اللامنتمين ضمن المستفيدين يكشف – دون أن يعلن ذلك صراحة – محاولة لترسيم صورة قصور الأحزاب في أداء وظيفتها التأطيرية كما يروج إلى ذلك. فالدولة، حين تتجاوز الوساطة الحزبية وتفتح الباب مباشرة أمام الشباب المستقلين، إنما تقر ضمنيا بأن القنوات التقليدية لم تعد الحاجة قائمة لها، فينا يخص قدرتها على استيعاب طاقات جديدة. لكن المفارقة أن هذا التحرر من الوساطة قد يُنتج سياسة بلا مرجعية وشبابا بلا تكوين سياسي، أي فاعلين يفتقرون إلى العمق الإيديولوجي والتمرس الميداني الضروريين لبناء ممارسة مؤسساتية ناضجة. وهنا تكمن خطورة الاختزال: تحويل المشاركة السياسية من مشروع وعي إلى عملية تمويل.

 

‎ وفي هذا السياق تحديدا، أجد أن مشروع القانون التنظيمي لمجلس النواب، في صيغته الحالية، يكرس المزيد من ضرب الأحزاب السياسية وتقليص أدوارها الدستورية. فالمشاركة السياسية للشباب لا يمكن أن تُبنى على أساس إضعاف الأحزاب أو الطعن في مصداقيتها، لأن هذه الأخيرة تظل الإطار الدستوري والتنظيمي الطبيعي لتأطير المواطنات والمواطنين. والضرب في مجهودات التنظيمات الشبابية الحزبية، التي يتطوع داخلها آلاف الشابات والشبان لخدمة قضايا الشباب والديمقراطية والمجتمع، هو مس بروح العمل التطوعي والسياسي المسؤول الذي يفترض أن تُشجع عليه الدولة بدل أن تُحاصره. فهذه التنظيمات تمثل مدارس للمواطنة ومصانع للقيادات، وإذا كانت تعاني من أعطاب داخلية، فإن الحل ليس في تجاوزها بل في إصلاحها من الداخل عبر أدوات الديمقراطية لا عبر الالتفاف عليها بقوانين تمويلية.

 إن التجارب الدولية المقارنة تؤكد هذا المنحى بوضوح. ففي إسبانيا، يشكل العمل داخل التنظيمات الشبابية الحزبية مسارا تربويا ومجتمعيا نحو المسؤولية العمومية، حيث يُنظر إلى الانتماء الحزبي لا كولاء بل كتمرّن على الممارسة الديمقراطية. وفي السويد وألمانيا، تُخصص الدولة تمويلا مؤسساتيا خاصا للمنظمات الشبابية التابعة للأحزاب، في اعتراف صريح بدورها في تكوين القيادات الشابة ونشر الثقافة السياسية. أما في دول أمريكا اللاتينية، فقد بينت التجارب أن محاولات تجاوز الأحزاب أو تهميشها في العمل السياسي أدت إلى تراجع حاد في المشاركة الشبابية، وفتحت الباب أمام الشعبوية والفردانية وفقدان الثقة في المؤسسات التمثيلية. ومن ثمّ فإن الرهان الحقيقي ليس في سن قوانين تضعف الأحزاب، بل في إصلاحها وتقويتها وتمكين الشباب من الانخراط من داخلها بجرأة، وإعطائهم فضاءات أوسع للتعبير والمبادرة والمساءلة.

 إن أكبر مكسب لهذا القرار، لو أُحسن تأطيره، ليس في المال العمومي الموجه، بل في الاعتراف الرمزي بأن للشباب مكانًا في هندسة القرار السياسي. غير أن هذا الاعتراف لا يثمر إلا إذا تحول إلى رأسمال اجتماعي دائم، أي إلى سياسات عمومية مندمجة في التعليم والإعلام والتكوين السياسي، تزرع ثقافة المواطنة الفاعلة لا ثقافة الترشح الموسمي. فالدعم، إن لم يُدرّب العقل السياسي الشاب على الفهم والمساءلة، سيتحول إلى إعانة ظرفية تغطي العطب ولا تعالجه.

 لا يمكن إنكار أن المغرب يعيش مرحلة دقيقة من إعادة بناء الثقة السياسية، وأن الدولة – بمبادرات كهذه – تبعث إشارات انفتاح حقيقية. لكن على الجيل الجديد أن يعي أن المشاركة ليست هبة تُمنح، بل مسؤولية تكتسب . فالشباب ليسوا مجرد فئة عمرية ينبغي تمثيلها، بل وعي جماعي يجب أن يترجم مشروعا سياسيا جديدا، قوامه الجرأة والنزاهة والإبداع في خدمة الصالح العام.

‎إن الدولة، حين تفتح الباب أمام شبابها للمشاركة، تُعيد تعريف الجدارة الديمقراطية خارج منطق الولاء والزبونية. لكن التحدي الحقيقي ليس في ضخ الأموال، بل في ضخ المعنى في السياسة. فبدون إعادة بناء الثقة، وإصلاح الحقل الحزبي، وتجديد الثقافة السياسية نفسها، سيبقى الدعم المالي مجرد تجميل مؤقت لأزمة أعمق. وعلى الشباب، إذا أراد أن يكون طرفا فاعلا لا ديكورا انتخابيا، أن يحول هذا الدعم إلى رهان على استعادة جوهر الفعل السياسي ومعناه، ولن يكون مدخلة إلا بالانتماء الحزبي، والاشتغال داخل باقي الأدوات النقابية والمدنية، لأن المؤسسات الحزبية والنقابية والجمعوية هي المسارات الفضلى لإنتاج المعنى المواطناتي عبر التحلي بقيم المسؤولية والتشاركية والتطوع، أما إيثار التفرج والحياد السلبي وانتظار موسم الانتخابات للترشح والاستفادة من الدعم العمومي فلين يكون إلا محض فتح أبواب أخرى للانتهازية.