بين نبل الاحتجاج وخبث الاختراق: مساءلة جماعية مشروعة

بقلم: ايمان الرازي الأحد 05 أكتوبر 2025
3d677759-c77f-4443-aeb2-8e0066a8a1af
3d677759-c77f-4443-aeb2-8e0066a8a1af


لا يختلف اثنان على أن الاحتجاجات الأخيرة التي قادها بعض الشباب الحالم بمغرب آخر ممكن قد أبانت عن طاقة شبابية دافقة مسكونة بقلق السؤال عن الكرامة، لكنها في الآن نفسه، كشفت عن هشاشة البنية الاحتجاجية الشبابية أمام مظاهر الاختراق و مخاطر الانزياح عن غاية الإصلاح، وأن الأمر تجاوز في شكله الاحتجاجي السلمي كسلوك تعبيري حضاري مسؤول ومشروع، إلى ساحة مفتوحة لتعبيرات دخيلة، لا تنتمي لهوية هؤلاء الشباب الرومانسي الحالم، ولا تشاركه بالضرورة أحلامه ومطالبه، وكما صدمنا جميعا بمشهد قاتم يرصد لمشاهد الاحتجاج المقرون بالعنف والتخريب، فهناك من مارس الاعتداء على الممتلكات العامة والخاصة، ومن واجه قوات حفظ النظام بعنف غير مسبوق، في محاولة مكشوفة لتحويل طاقة الغضب إلى فوضى عارمة.

وهنا تبرز المفارقة المريبة: حركة احتجاجية سلمية في منطلقها وظاهرها، لكنها وجدت نفسها في المقابل مهددة من الداخل بعناصر وظيفتها كسر سلميتها وتشويه رسالتها وعرقلة مسارها، لأن العنف الذي مورس ضد رجال الأمن والمس بالممتلكات العامة والخاصة لا يمكن أن يُفهم إلا بوصفه خروجا عن المنهجية الاحتجاجية السلمية، فكم سجل التاريخ أنماط احتجاج سلمية وحضارية أتت أكلها لا لشيء إلا لأن المناضل الحقيقي لا يحرق مستشفى ولا يقتحم بنكا ولا ينهب دكانا بسيطا ولا سوقا ممتازا، لأنه يناضل قي إطار السلمية التي يكفلها دستور 2011 في إطار القانون الذي يكفل له المطالبة بدولة تعالج وتعطي التعليم وتوفر شروط العيش الكريم.

لكن دخول عناصر غير منتمية للجيل المحتج الجديد جعل المشهد العام يختلط فيه النبيل بالوضيع، والمشروع بالهدام والمناضل بالبلطجي. هنا نطرح سؤالا حارقا: من المسؤول عن هذه الثغرة التي سمحت بالاختراق؟ هل هي بنية الاحتجاج نفسها؟ أم هشاشة مؤسسات التأطير السياسي والنقابي والمدني التي كان يفترض أن تواكب الشباب وتوفر لهم قنوات منظمة للتعبير هي من ساهمت في هذا الانحدار المريب؟

إلى جانب ذلك كله، فإن البعض من الشعارات التي رُفعت خلال هذه الاحتجاجات لم تكن صافية ومنسجمة، بل بدت هجينة، مزيجا هجينا بين مطالب مشروعة تعبر عن وعي الشباب بخصوصيات واقعه، وبين شعارات مستعادة من تاريخ الاحتجاجات المغربية منذ سنوات الرصاص وما بعدها وبين شعارات نابية تطرح سؤال القيم بإلحاح. فهذا الخليط الهجين في الشعارات يطرح إشكال غياب صياغة لغوية وسياسية خاصة بهذا الجيل، رغم انتمائه لعصر الرقمنة والإنترنت والسرعة، وجد نفسه يكرر جزئيا ما سبق، وكأنه لم يجد بعد قاموسه الحجاجي الخاص به ما يؤشر على خلل ما في تنشئته السياسية والاجتماعية والثقافية.

وعندما نطرح سؤال المؤسسات المسؤولة عن التنشئة، فإننا لا نعني فقط المدرسة والجامعة، بل أيضا الأسرة والإعلام والأحزاب والنقابات والجمعيات، أمكننا أن نجاهر بالقول: أين كانت الأسرة التي تربي على الحوار والمسؤولية؟ أين المدرسة التي يفترض أن تهيء مستقبلا مواطنا ينتقد دون أن يدمر؟ أين الجامعة التي كان من المفروض أن تظل فضاء للنقاش الحر وإذكاء الحس النقدي ؟ إن هذا الغياب القسري هو الذي جعل شبابا كثيرين اليوم يدخلون الساحة بدون بوصلة واضحة، ما فتح المجال أمام عناصر تخريبية لتوجيه المسار عن خطه الإصلاحي. ولعل أخطر ما في الأمر كله، هو أن هذه المؤسسات لم تغب فقط، بل تحولت أحيانا إلى عوامل إنتاج الإحباط واليأس، فالطالب يخرج من الجامعة ليجد البطالة في وجهه، والمواطن البسيط يلج المستشفى العمومي ليجد غياب الخدمات، والأسرة نفسها مثقلة بالهشاشة الاقتصادية والاجتماعية لأن العوائل يسكنها هاجس تحصيل قوت يومها قبل تربية أطفالها.

هنا نستحضر المفهوم الذي أثاره السوسيولوجي محمد جسوس حين تحدث عن "جيل الضباع"، وهو وصف في ظاهره قاس وصادم لكنه دال معبر: جيل تربى على قيم الاستهلاك الفج، والربح السريع، واللامبالاة بالمعايير الأخلاقية، جيل يلتقط الفرصة لينقض على ما يراه غنيمة مستباحة، لا مشروعا جماعيا بنفس إصلاحي. وإذا كان جيل Z قد عبر عن غضب مشروع في الشارع، فإن ما رافقه من عنف وتخريب يكشف أن جزءا من هذا الجيل –أو من العناصر المتسللة إليه– حتى لا نعمم، يتحرك بمنطق الضباع بمنطوق لسان جسوس رحمه الله أي اقتناص اللحظة وتدمير الوطن دون التفكير في المستقبل. والخطر هنا أن يتحول هذا المنطق إلى قاعدة سلوك عام، فيغدو الاحتجاج ذاته أداة للهدم لا للبناء أو خدمة لمن ينتظرون حشر وطننا في الزاوية.

لكن الأمانة الفكرية تقتضي أن نعترف بأن مسؤولية هذا الوضع لا تقع على الشباب وحدهم، لكنها مساءلة جماعية ينبغي أن تطال الجميع، الجزء اليسير من السياسيين الذين اختزلوا السياسة في الانتخابات والمقاعد، وبعض كابرانات النقابة الذين أفرغوا العمل النقابي من بعده التأطيري، وبعض الإعلام الذي انساق للسطحية بدل التثقيف، والمثقفين الذين انسحبوا في صمت أو بعضهم ممن تحولوا إلى أبواق، أو الجامعة التي انشغلت بالرتب أكثر من انشغالها بصناعة الفكر؛ ثم الأسرة أخيرا التي فقدت وظيفتها التربوية تحت ضغط العولمة المادية.

كل هؤلاء مسؤولون، وأنا من بينهم كأستاذة جامعية أجد نفسي ضمن هذه الحلقة المتسلسلة من المسؤولية، لأنني لم أتمكن بالقدر الكافي من بناء جسور بين المعرفة الأكاديمية ورفع منسوب وعي الشباب في التزامنا الصارم بما هو بيداغوجي معرفي وانضباطنا المهني له.

إن رسالة جيل Z اليوم، رغم كل التشويش والاختراق والعنف، تظل مشروعة: رسالة بحث عن الكرامة والعدالة الاجتماعية. لكن هذه الرسالة الاحتجاجية الفجائية هي مساءلة الذات الجماعية: هل نريد جيلا يواصل دورة الاحتجاجات العبثية، أم نريد جيلا يجد مكانه في مشروع وطني جامع؟

إننا أمام اختبار قاس يكشف عن حجم الفجوة بين الدولة والمجتمع، بين الأجيال الجديدة ومؤسساتها، بين الطموح والواقع. ولن يكون الرد في التدخل أو في التخوين، بل في إعادة بناء الثقة بين الجميع عبر استعادة وظيفة المؤسسات التربوية والثقافية والسياسية. فجيل Z لا يحتاج إلى من يلقنه درسا في الأخلاق فقط، لكنه في أمسّ الحاجة إلى أن يؤطره ويرى فيه نموذجا صادقا في الممارسة. وحينذاك ، يمكن للرسالة أن تتحول من صرخة حارقة في الشارع إلى مشروع متحقق على أرض الواقع.