منذ أن حطت أنباء المأساة الأخيرة في قطاع غزة على أسماع العالم، وجع المدنيين الفلسطينين يتسع كجمر تحت الرماد، تلتهم نيرانه أرواح الأبرياء وتنهك الأجساد المحاصرة تحت وطأة الجوع والخوف وانهيار العمران، وفي هذا الوقت العصيب بالذات، أطل المغرب بوجهه المألوف في ملاحم التضامن العربي، لا ليكتفي ببيان إدانة أو خطاب عاطفي، بل لينسج فعلا ملموسا يترجم الموقف إلى قوافل دعم تعبر السماء والبر لتصل مباشرة إلى قلوب وبيوت الغزاويين الأبرياء.
جاءت هنا المبادرة الإنسانية النبيلة بتوجيه ملكي مباشر من جلالة الملك محمد السادس، رئيس لجنة القدس، الذي أمر بإرسال مساعدات إنسانية وطبية عاجلة، بلغت في دفعتها الأولى أواخر يوليوز 2025 نحو مائة وثمانين طنًا من المواد الغذائية الأساسية، وحليب الأطفال، والأدوية، والمعدات الجراحية، والأغطية والخيام، في خطوة لم تكتف بحجم العطاء، بل تفرّدت بطريقة وصوله. فالمغرب، بخبرته السياسية وقدرته على المناورة، استطاع أن يبتكر مسارا لوجستيكيا غير مسبوق، بنقل المساعدات جوا إلى مطار بن غوريون ثم برا عبر معبر كرم أبو سالم إلى غزة، ليصبح البلد الوحيد الذي تمكن، في ذروة الحصار، من إدخال شحناته مباشرة إلى السكان المدنيين المحاصرين.
لم يكن هذا الجهد الخارق مجرد حدث معزول أو طارئ، لكنه تحول بفضل حنكة السياسة الخارجية المغربية إلى جسر جوي وبري متواصل، توالت عبره الدفعات تباعا، وكان آخرها في الخامس من غشت 2025 حين وصلت القافلة الخامسة محملة بثلاثة وخمسين طنا إضافية من الغذاء والدواء ومستلزمات الأطفال وكبار السن، وأغطية وخيام لمواجهة قسوة النزوح، فهذه الاستمرارية في الدعم تكشف أن الأمر يتجاوز هبة ملكية أو مجاملة سياسية، ليصير التزاما ملكيا مبرمجا ومدروسا يروم من بين ما يرومه، الإسهام الفعلي في التخفيف من معاناة الغزاويين، وإلى كسر العزلة التي فرضت عليهم عبر قنوات إنسانية حقيقية.
googletag.cmd.push(function() { googletag.display('div-gpt-ad-1667386526530-0'); });
وقد كان للموقف المغربي صداه الواضح في الأوساط الفلسطينية، خاصة أن العديد من المسؤولين والقيادات الفلسطينية قد عبرت عن امتنانها لهذا الدعم الذي وصفه وزير الإعلام الفلسطيني أحمد عساف بأنه مساعدة إنسانية تعكس موقفا سياسيا أصيلا لوفاء المغرب بعهده التاريخي تجاه فلسطين، مؤكدا أن هذه المبادرة تحمل رسالة واضحة للعالم بأن هناك من يضع حياة الإنسان فوق الحسابات الضيقة، ويصر على أن يظل التضامن فعلا حيا حقيقيا ملموسا لا شعارا موسميا ابتزازيا في الساحات.
ولفهم عمق هذا الموقف، لا بد من العودة إلى الجذور التاريخية للعلاقات المغربية الفلسطينية، وهي جذور تمتد في الذاكرة الجماعية للأمتين منذ قرون، إذ جمعت بينهما روابط الدين واللغة والمصير المشترك في إطار الفضاء الحضاري الإسلامي، كما جمعت بين قلوب المغاربة والفلسطينيين مشاعر الأخوة والتضامن على مر التاريخ، كذلك الحال بالنسبة للتاريخ أو العصر الحديث، الذي برز فيه المغرب كداعم أساسي للحقوق الفلسطينية، وكان من أبرز محطات هذا الدعم ما شهدته قمة الرباط العربية عام 1974، حين قادت المملكة جهود الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية باعتبارها ممثلا شرعيا وحيدا للشعب الفلسطيني، وهو قرار أسس لمرحلة جديدة في مسار النضال الفلسطيني المشروع على الصعيد الدولي.
ثم جاء تأسيس لجنة القدس برئاسة جلالة الملك الراحل الحسن الثاني رحمه الله، حيث تم إنشاء مؤسسة بيت مال القدس الشريف عام 1998، كترجمة مؤسساتية لهذا الالتزام، والتي ظلت تحت إشراف الملك محمد السادس، أداة عملية لدعم صمود المقدسيين عبر مشاريع تعليمية وصحية وثقافية، لحماية الطابع العربي والإسلامي والمسيحي للمدينة المقدسة. وهكذا، فإن المبادرة الأخيرة لدعم غزة ليست إلا امتدادا جليا لخط عمل واضح وثابت، يربط بين الدعم الميداني العاجل والرؤية الملكية الاستراتيجية السديدة لدعم القضية الفلسطينية وحل الدولتين.
ومن اللافت أن هذا النهج لم يتأثر بالتحولات التي عرفتها السياسة الخارجية المغربية، بما فيها استئناف العلاقات مع إسرائيل سنة 2020، فقد أظهر المغرب أن الانفتاح الدبلوماسي لا يعني التخلي عن الثوابت، بل يمكن توظيفه أحيانا لفتح مسارات عملية تسهم في خدمة القضايا الإنسانية الكبرى، ولعل القدرة على إدخال المساعدات إلى غزة، في وقت كان فيه الحصار مطبقا وخانقا، وأن العراقيل الإدارية والسياسية تعيق مرور أي دعم، لدليل قاطع على هذه القدرة الباهرة على الموازنة بين مقتضيات السياسة ومتطلبات الأخلاق التي لا يملكها إلا المغرب بفضل حكمة جلالة الملك وحنكة الديبلوماسية المغربية.
والمغرب اليوم، بهذا الفعل الإنساني النبيل، لم ينتظر اشتعال الأزمات ليتحرك، بل سبق أن بادر مرارا في السنوات الماضية إلى إرسال مساعدات إلى غزة، كما فعل في يونيو 2024 حين أرسل أربعين طنا من الإمدادات الطبية لمعالجة الحروق وإصابات الحرب، ونقلها بالتنسيق مع الهلال الأحمر الفلسطيني. كما ظل يحتضن دائما بعض اللقاءات الفلسطينية–المغربية التي تبحث في أولويات الدعم، خاصة لمدينة القدس، في إطار مقاربة شاملة لا تفصل بين جغرافيا غزة والقدس والضفة، بل تراها جبهات متكاملة في معركة الصمود والبقاء.
إن قراءة هذه المبادرة في سياقها الإنساني والسياسي تكشف عن فلسفة خاصة في العمل المغربي تجاه فلسطين، تقوم على أن التضامن ليس حدثا موسميا كما سلف الذكر، لكنه في العمق يشكل عملية مستمرة تدمج الإغاثة العاجلة بالعمل المؤسسي طويل المدى. وهي فلسفة تقوم أيضا، على الإيمان بأن الموقف الأخلاقي يمكن أن يتعايش مع البراغماتية السياسية دون أن يفرغها من مضمونها، بل قد يمنحها أدوات أوسع للتأثير.
ولأن العمل المؤسسي هو الضامن للاستمرارية، فإن مؤسسة بيت مال القدس الشريف تمثل أحد أعمدة هذا النهج، بما تنجزه من مشاريع تحافظ على الحياة اليومية في القدس وتحمي مقومات الهوية فيها. وهكذا، فإن المساعدات المغربية الأخيرة لقطاع غزة جاءت لتؤكد مرة أخرى أن هذا البلد، يرى في فلسطين قضية إنسانية عادلة تخصه بقدر ما تخص الفلسطينيين أنفسهم، وأنه لا يرضى أن تكون نصرة الحق أسيرة للظروف أو أسيرة للمزايدات. إنها رسالة بليغة إلى العالم بأن هناك من سيظل مؤمنا بأن التضامن العربي ممكن، وبأن الفعل الإنساني، حين يقترن بالإرادة السياسية، قادر على اختراق جدران الحصار وإيصال الحياة إلى حيث يريد الآخرون بث الموت.
في نهاية المطاف، لا يمكن النظر إلى ما حدث إلا باعتباره فصلا جديدا في سجل طويل من المواقف المغربية المشرفة والمشرقة تجاه فلسطين، سجل يبدأ من قمة الرباط 1974، ويمر عبر تأسيس لجنة القدس وبيت مالها، ولا ينتهي عند جسر المساعدات إلى غزة في صيف 2025. وفي كل فصل من هذا السجل، نجد أن القاسم المشترك هو الإرادة الحرة في دعم الحق، والقدرة على تحويل هذه الإرادة إلى فعل ملموس، يعيد المعنى إلى مفهوم الأخوة العربية، ويثبت أن التاريخ المشترك ليس مجد ذكرى، لكنه بحق، عهد متجدد في كل زمان ومكان.
وهكذا، فإن الموقف المغربي تجاه غزة ليس موقفا عابرا أو طارئا تمليه اللحظة أو ضغوط الظرف الراهن، بل هو امتداد طبيعي لمسار طويل من الالتزام الأخلاقي والسياسي تجاه القضية الفلسطينية، بما تحمله من أبعاد إنسانية وحقوقية وتاريخية، وأن المساعدات الأخيرة قد برهنت، بكل ما تحمله من رمزية ودلالة، على أن التضامن المغربي مع الشعب الفلسطيني هو تضامن فعل لا قول، وتضامن ملك وموقف دولة وليس للمزايدة أو الابتزاز.
* أستاذة جامعية وفاعلة سياسية ونقابية.