الكرة بصيغة المؤنث.. الإنجاز، الرؤية، الامتدادات

حنان رحاب الأحد 27 يوليو 2025
20250727_162241
20250727_162241

كان المغاربة - نساء ورجالا – ينتظرون ليلة السبت الأخيرة فوز المنتخب النسوي المغربي بالكأس القارية، ولهذا دلالاته على مستوى تغيرات كثيرة تقع داخل النسق الثقافي المغربي، قد لا نلاحظها، ولكنها تفاجئنا في لحظات استثنائية بتجليها.

 فمشهد أسر مغربية داخل الملعب الأولمبي بالرباط، ومشهد الكثير من الرجال في المقاهي، وأعينهم مشدودة إلى التلفاز، بتفاعل لا يقل عن ذاك الذي يتم رصده أثناء مقابلات منتخب الرجال، له من الدلالات الثقافية والاجتماعية، التي تشي بحدوث تحولات فيما يخص الانزياح عن الصور النمطية الملتصقة بالمرأة، والاعتراف لها بأي منجز قد تحققه، وفي أي ميدان.

 فلقد كان ينظر لمزاولة الفتيات لعبة "كرة القدم" منذ سنوات خلت، بمنظار الرفض والاستخفاف والتهكم، أو اعتبار ذلك مما يدخل في التشبه بالرجال.

 كانت كرة القدم، وهي الرياضة الشعبية الأولى حكرا على الرجال، وكانت المرأة مستبعدة من فضاءاتها.

 حتى الصحافيات لم يكن يقربن هذا المجال، ولذلك ظلت قائمة بلعوشي مثلا حاضرة في الذاكرة، لأنها الصحافية الأولى التي اقتحمت هذا الميدان، وكان حضورها لتغطية مقابلات كرة القدم في أواخر الثمانينيات وبدايات تسعينيات القرن الماضي بمثابة الحدث.

 اليوم تمارس النساء كرة القدم بشكل عاد، بل وتنتقل لاعبات مغربيات من الدوري المحلي للاحتراف في دوريات أوروبية، وتشهد ملاعب الكرة المغربية حضورا متزايدا للصحافيات الرياضيات (تغطية وتصويرا)، ويشجع آباء بناتهن الموهوبات كرويا على الالتحاق بالأندية النسوية ومراكز التكوين، ولا يقتصر الأمر على طبقة اجتماعية واحدة، ولا على مجال جغرافي محدد.

  بل اللافت أنه في مناطق الهامش، استطاعت أندية الكرة النسوية ان يكون لها حضور وطني أكبر من أندية الكرة الرجالية ( خنيفرة، عين حرودة، تارودانت،،،)

‎     إن ما تم إنجازه تحقق في زمنية قياسية لم تتجاوز العقدين، حيث عرفت الممارسة الكروية النسوية تحولا جذريا، سواء على مستوى المنجز الرياضي، أو البنية التحتية، أو الحضور الإعلامي والمجتمعي.

‎هذا التطور لم يكن وليد الصدفة، بل جاء نتيجة رؤية استراتيجية متكاملة، جسّدتها الجامعة الملكية المغربية لكرة القدم، ولن نبالغ إذا قلنا إن ذلك مان يحتاج لاقتناع وإرادة على مستوى قمة الجامعة، وهو ما تحقق مع رئاسة السيد فوزي لقجع لها، ورافقتها دينامية مجتمعية تعكس التحولات الإيجابية التي تعرفها وضعية المرأة المغربية.

  كانت الكرة النسوية المغربية، حتى مطلع الألفية الثالثة، تعاني من الهشاشة على جميع المستويات: ضعف التكوين، غياب البنيات التحتية، شح الموارد المالية، وضعف التمثيلية الدولية. غير أن بداية التغيير بدأت فعليًا مع العقد الثاني من الألفية، خاصة بعد سنة 2014، حيث تبنّت الجامعة الملكية المغربية لكرة القدم مخططا استراتيجيا لتطوير كرة القدم النسوية.

‎    ويمكن التدليل على هذه القفزة بالأرقام الدالة، فعدد الأندية النسوية انتقل من أقل من 20 ناديًا سنة 2010 إلى ما يقارب 100 ناد مرخص له حاليا.

فيما ارتفع عدد اللاعبات المسجلات من حوالي 1000 سنة 2009 إلى حواليمن 30000 لاعبة حاليا اعتمادا على إحصائيات جامعة الكرة.

‎وهو الأمر الذي جعل الانتقال من بطولة تعتمد نظام الهواية إلى بطولة احترافية سالكا وممكنا، وتم ذلك خلال الموسم الكروي 2020/2021، وببطولة من قسمين، مما فتح آفاقا جديدة للاعبات للتفرغ التام، وبالتالي تطوير إمكانياتهن التقنية والبدنية والمهارية والذهنية، وانعكس ذلك إيجابيا حتى على الأندية النسوية التي أصبحت مشتلا للتكوين، ومن ثم إلى تأهيل اللاعبات للاحتراف خارج أرض الوطن.

   ولم تمر سوى ثلاث سنوات على انطلاق البطولة الاحترافية ليصل المنتخب الوطني النسوي إلى نهائيات كأس العالم 2023 بأستراليا ونيوزيلندا، ويبلغ دور الثمن، وهو إنجاز غير مسبوق عربياً.

‎ في حين أن منتخبات عربية عديدة (مثل الجزائر وتونس ومصر) كانت رائدة سابقًا في الكرة النسوية، فإن المغرب تفوّق عليها في السنوات الأخيرة من حيث التصنيف الدولي، وكذا من حيث البنيات التحتية، والاستثمار في التكوين.

‎ففي 2012، كان ترتيب المنتخب المغربي النسوي في الفيفا خارج قائمة الـ80 الأوائل، أما اليوم فهو ضمن الـ50 الأوائل عالميًا.

منذ توليه رئاسة الجامعة الملكية المغربية لكرة القدم سنة 2014، شكّل فوزي لقجع حجر الزاوية في مشروع طموح لتطوير كرة القدم بجميع فئاتها، بما في ذلك الكرة النسوية، التي كانت تعاني من تهميش تاريخي.

‎ لن نعدد منجز الرجل في شموليته، وسنقتصر لإكراهات المناسبة على ما تحقق للكرة النسوية.

 فبخبرته سواء في التدبير المالي، أو في الشأن الرياضي من بوابة التسيير، وعى رئيس الجامعة أنه لا يمكن إغفال الشرط المالي إذا أردنا نهضة كروية نسوية، وهكذا فرض على فرق كرة القدم تأسيس فرق نسوية للفئات المختلفة، كشرط للحصول على منح الجامعة. توازيا مع رفع الجامعة للميزانيات المخصصة لكرة القدم بنسبة غير مسبوقة فاقت 300 في المئة.

ولأن الرفع من مستوى أي نشاط رياضي يقتضي بنيات متقدمة وتكوينا للممارسين على أعلى مستويات ممكنة، فقد استثمرت الجامعة في البنيات التحتية ومراكز التكوين الخاصة باللاعبات، وأبرزها نركز التكوين الملحق بمركز محمد السادس، الذي يعتبر الأفضل قاريا. دون إغفال برامج التكوين الموجهة للمدربات واللواتي منهن من يشتغل اليوم خارج الوطن في مهام التدريب والتكوين، بفضل الدبلومات التي حصلن عليها، والأمر كذلك بالنسبة للحكمات اللواتي ارتفع عدد المعتمدات منهن قاريا، والمعروفات بإدارة حتى مقابلات الكرة الرجالية وطنيا وقاريا.

 ولقد ساهم  نقل مباريات البطولة النسوية على القنوات الوطنية، في تشجيع المتابعة الجماهيرية لكرة القدم النسوية، وإن يكن الأمر لم يبلغ الغاية المرجوة منها، بفعل إكراهات البرمجة التلفزيونية.

  غير أن تنظيم أحداث دولية بالمغرب، ككأس إفريقيا للسيدات 2022 و 2025، التي شهدت حضورًا جماهيريًا خصوصا في مقابلة النهائي ضد نيجيريا أخيرا، كان له دور في تحقيق متابعة جماهيرية، إذ باتت أسماء العديد من نجمات المنتخب النسوي معروفة عند الشغوفين بالكرة، حد متابعة أخبار انتقالاتهن.

‎  امتدادات ثقافية واجتماعية

‎إن النهضة الكروية النسوية في المغرب لا يمكن فصلها عن الحركية المجتمعية الأوسع التي تشهدها أوضاع المرأة المغربية، سواء على مستوى الحقوق أو الحضور في الفضاء العام.

‎  فلقد ترافقت هذه المكتسبات الرياضية مع مكتسبات سياسية، في مقدمتهادستور 2011، الذي أقر مبدأ المناصفة، وإحداث برامج لتشجيع المشاركة النسائية في جميع المجالات.

‎   وعلى المستوى الإعلامي تنامى الحضور الإعلامي للمرأة الرياضية، بفضل تغطيات الصحافة الوطنية لمباريات البطولة النسوية والمنتخبالنسوي، مما أدى إلى وتقديم نماذج نسائية ملهمة.

‎   وبالمحصلة أدى كل هذا التراكم السياسي والإعلامي والرياضي إلى تكسير العديد من الصور النمطية، فلقد كانت كرة القدم تعتبر لعقود، رياضة "ذكورية" بامتياز. لكن ظهور لاعبات مثل غزلان شباك أو سناء المسعودي كمثال على القوة، والاحتراف، والنجاح، شكّل النقيض ا لصورة المرأة النمطية كمحصورة في أدوار معينة، كما وقع نجاحات نسائية سابقة في ميادين السياسة والأدب والفن والاقتصاد وغيرها.

‎ولقد منح  الحضور الجماهيري الكبير في مباريات المنتخب النسوي اعترافا شعبيا أعطى للمرأة المغربية شرعية رمزية جديدة داخل الفضاء الرياضي.

      فالمشاركة في كأس العالم للنساء، ورفع العلم المغربي هناك، لم يكن مجرد إنجاز رياضي، بل كان رسالة حضارية تقول إن المرأة المغربية قادرة على التميز عالميًا، وأن المغرب ينتمي إلى دينامية كونية في مجال المساواة والتمكين للنساء.

وتبعا لذلك تحوّلت كرة القدم النسوية في المغرب من نشاط هامشي إلى مشروع وطني له آثاره الرياضية والاجتماعية والثقافية. فبفضل رؤية استراتيجية ملكية قادها فوزي لقجع، ودعم مجتمعي متنام ، أصبحت لاعبات المغرب جزءًا من المشهد الكروي الدولي، وأسهمن في إعادة تشكيل صورة المرأة المغربية داخل الوطن وخارجه.

‎إنها قصة نجاح تستحق التثمين والتطوير المستمر. وتستحق شكر كل الذين ساهموا في هذا المنجز الوطني