ودعنا زياد الرحباني كما نودع كل شيء جميل: بصمت لا يليق، وبحسرةٍ لا تذاع.
رحل من ترعرعنا على ألحانه الساخرة، ومسرحه المحتج، ومواقفه المنحازة للفقراء، والمتمردين على قواعد الذوق الرسمي.
رحل، ونحن لا نزال نستمع لأغنيته "أنا مش كافر"، كي نثبت في دواخلنا أننا ما زلنا نؤمن بشيء... أي شيء... حتى لو كان كفرا فنيا ضد هذا الطوفان من البلاهة الغنائية.
ودعنا زياد الرحباني كما تودع الأوطان التي لم تولد: بحزن بلا مراسم، وبصوت مبحوح لا يجد لحنه، رحل من كان يلحن أحلامنا اليسارية بخفة ساخرة، ويعزف على وجعنا العربي بيد واحدة وأخرى ترفع الكأس عن آخر جملة في النص.
كان نادرا، فظا، محبا، صادقا، وذكيا أكثر مما تسمح به مخابرات الجنوب.
زياد لم يكن مجرد ملحن، كان حبا يساريا يتسكع بين المقاهي البيروتية والمقامات الشرقية، ابن فيروز، لكنه خرج من عباءة "الرحابنة" حاملا بندقية الناقد وعود الهارب، صعلوكاً بمزاج روسي، شيوعيا على طريقته، مدمنا على الصراحة، وغير مهتم بالتصفيق.
قال عن نفسه: "أنا كتير مش محبوب"، وصدق، فنحن في بلاد لا تحب الصادقين، ولا ترحم الحالمين، ولا تستسيغ كيفك إنت؟...
كانت فيروز أمه، نعم، لكنه لم يكن نجل الأسطورة بقدر ما كان ابن الوجع اللبناني، ناطقا رسميا باسم الخيبة العربية، شاعر الهزائم الصغيرة، ومنشد الأحلام المؤجلة على نخب العرق الرخيص، لم يكتب نشيدا وطنيا، بل كتب لحن الانسحاب، وودعنا مرات كثيرة: "أنا صار لازم ودعكن...".
ابن فيروز، نعم، لكنه ابن النشاز الجميل لا الانضباط الكورالي.
خرج من عباءة الرحابنة كمن يهرب من حفل زفاف، وسار حافي الفكر في أزقة اليسار، غير آبه بمصافحات الرسميين.
كان مؤرخاً موسيقياً للبنان المتشظي، لبنان المقهور والمقهورين، لا لبنان الفوتوشوب والخطابات، في مسرحياته، في أغنياته، في جمله المرتجلة، رسم يوميات وطن ينهار بقهوة ونكتة وموسيقى ممانعة.
في زمن الـ Auto-Tune، حيث يستبدل الضمير بالريمكس، والألم بالفلتر، نودع زياد كمن يدفن كتابا نادرا وسط جوقة من "فناني" المقالب و"رواد" التيك توك... يوارى اليوم في التراب من كان يحول يوميات الخيبة إلى سيمفونيات.
ودعناه كما نودع الوطن، بقلب حزين، ولافتة على قبره كتب عليها "أنا مش كافر، بس الجوع كافر، والذل كافر، والذوق العام كافر .."..
أحلامنا باتت ممزقة، أغانينا مشوهة، أمانينا تختصر في لايك على فيديو سمج... أما زياد، فبقي وفيا لذلك الحنين الخشن، لتلك الرومانسية المشاغبة، لذلك الحب اليساري الذي لا يترجم إلا بلغة العناد.
وداعا يا آخر العشاق الذين يعرفون أن الحنين ليس نغما فقط، بل موقف... وأن الفن، حين يكون حقيقيا، لا يساوم، رجل عاش التناقض كأنه صفة فنية، لا خللا في الرؤية.
كتب أناشيد التمرد، لا أناشيد الدولة، مؤمنا أن النغمة قد تكون أبلغ من البيان، وأن المزحة الجارحة أكثر صدقا من المحاضرة، سخر من اليمين واليسار معا، ورفض أن يكون دمية حتى في أيدي رفاقه، كان يعرف أن الممانعة الحقيقية تبدأ من معاداة الغباء، لا الغرب فقط.
من يجرؤ أن يقول "أنا مش كافر" دون أن يصنف في خانة التطرف؟ من يتجرأ على تلحين فكرة، لا شعارات؟ من ما زال يؤمن أن الفن يستطيع أن يعارض لا أن يشتت؟
زياد كان فيلسوف العبث، يؤمن أن الحياة لا تؤخذ على محمل الجد، لكنها لا تستحق أن تعاش بخفة، عاش كما يشاء، وتمرد كما يلزم، ومات كما يموت الكبار... دون ضجيج، تاركا لنا مهمة وداعه وسط جوقة الفوضى، وربما تركنا في منتصف جملة غير مكتملة، موسيقى غير منتهية، وقصيدة تمشي على عكاز الحنين.
وداعا يا من علمتنا أن السخرية مقاومة، وأن الأغنية قد تكون قنبلة موقوتة... بصوت والدتك فيروز.
فلترقد يا زياد على رجاء القيامة المجيدة مزودا بالأسرار المقدسة.
googletag.cmd.push(function() { googletag.display('div-gpt-ad-1667386526530-0'); });