في الوقت الذي تتعالى فيه أبواق التشهير الصدئة، وتتسابق فيه منابر الشعبوية الفجة إلى اغتيال السمعة دون عناء البحث أو التقصي أو التمحيص، برز صوت وزير الداخلية عبد الوافي لفتيت، بالأمس، داخل قبة مجلس المستشارين، ليعيد الاعتبار إلى منطق الدولة، ومبدأ الشرعية، وحدود الاتهام. جاء رده على مستشار من مدينة بني ملال حاول في تدخله تحويل قبة البرلمان إلى منبر للمزايدة الرخيصة، متهما منتخبي بلدية بني ملال بالفساد، وكأن الوصف الأخلاقي أو القانوني قد بات سلعة تباع في خطابات انفعالية، لا في محاضر التفتيش البوليسية ولا في الأحكام القضائية.
لقد حمل رد وزير الداخلية السيد عبد الوافي لفتيت دلالة سياسية عميقة، تتجاوز لحظة الجدل بين عضو مجلس ومستوزر تنفيذي، لتلامس جوهر العلاقة بين المؤسسات، وحدود الفعل السياسي السليم، وتطرح سؤالًا بالغ الأهمية: ما الذي تبقى من هيبة المؤسسة المنتخبة إن فتحنا الباب على مصراعيه أمام توزيع تُهَم الفساد جزافا ومجانا، خارج مساطر المراقبة والمحاسبة؟
ففي دفاعه عن منتخبي بني ملال، لم يُطلق الوزير أحكاما بالمجان، كما لم يُعفِ أحدا من المساءلة إن ثبت الخرق والتجاوز، بل احتكم إلى منطق الدولة التي لا يمكن أن تدين مسؤوليها إلا بناءً على وقائع مثبتة، ومراقبة إدارية أو قضائية صريحة، وهو بذلك يستعيد معاني الإنصاف السياسي، الذي لم يعد يُؤمن به إلا من تبقى من حراس المؤسسات، لا من تجار الخطابات الاتهامية.
googletag.cmd.push(function() { googletag.display('div-gpt-ad-1667386526530-0'); });
إن المنتَخَب، كيفما كان موقعه، لا يصبح فاسدا فقط لمجرد أن خصما سياسيا صرخ في وجهه أو شكك في نواياه. فالشرعية الانتخابية التي منحته ثقة الناس لا تسقط بكلمة، ولا تنقضها اتهامات عابرة. لذلك، فإن القول بفساد مجلس جماعي ما، دون تقديم حجج أو أدلة، لا يخرج عن كونه انزلاقا خطيرا في مستنقع اللامسؤولية السياسية. وهنا تكمن أهمية ما قاله وزير الداخلية: لا يمكن أن نعمم تهمة الفساد إلا إذا ثبتت وقائعها، وتم التأكد منها عبر مؤسسات الرقابة والتفتيش، وليس عبر انفعالات القاعة.
لقد أراد البعض تحويل النقاش داخل البرلمان إلى محاكمة مفتوحة للمنتخبين، كأن التجربة الديمقراطية قد اختزلت في مقصلة الاتهام، لا في ترسيخ مبادئ المحاسبة الرصينة. وهذا توجه خطير، لأنه يغذي خطاب العدمية، ويشيع ثقافة الشك الممنهج، ويزرع في وعي المواطن أن لا أحد جدير بثقته مطلقا، وهذا ما يجعل تدخل وزير الداخلية بمثابة موقف للدفاع عن المؤسسة المنتخبة، وعن مسار الدولة، قبل أن يكون دفاعًا عن أشخاص أو أسماء.
قد يرى البعض في هذا الرد نوعا من الحياد أو التواطؤ، لكن من يقرأ ما بين السطور، ويدرك مقتضيات دولة القانون، سيفهم أن ما قاله السيد لفتيت ليس دفاعا عن أحد، بل دفاع عن مبدأ. والفرق شاسع بين أن تنتصر لشخص، وأن تنتصر لمبدأ. فالدولة التي تسقط في فخ الاتهام الانفعالي تفقد توازنها، وتتحول تدريجيا إلى ساحة للصراعات الغرائزية، لا لمأسسة الرقابة والمحاسبة. أما الدولة التي تحدد للاتهام شروطه، وتربط الفساد بأدلته، فإنها تحفظ لنفسها الحد الأدنى من الهيبة والاستمرارية والبقاء.
وفي هذا السياق، يمكن أن نقرأ رد وزير الداخلية كبنية مضادة للخطاب الشعبوي، الذي يستسهل استهداف المنتخبين. فأن تقول لمسؤول محلي أو عضو جماعي إنه فاسد، دون سند أو دليل، هو أن تجرمه أخلاقيا أمام ناخبيه، وتكسر أداة الوساطة السياسية في الوطن، وتغرس في نفوس المواطنين شعورا بالعدم واللاجدوى، وربما بالتمرد لاحقا في لحظة يأس جماعية. فكيف نطلب من المواطنات والمواطنين أن يشاركوا في الانتخابات، ونقنعهم بأهمية الفعل الديمقراطي، بينما نسمح لبعض الخطابات أن تعصف بشرعية من اختارهم المواطن، قبل أن تعصف بهم أجهزة التفتيش أو أحكام القضاء؟
وإن أخطر ما في هذا النوع من الخطاب ليس فقط ضربه لمصداقية المؤسسات، بل أيضا تغذيته لمنطق تصفية الحسابات السياسية، تحت يافطة النزاهة. فأن يتهم عضوٌ منتخبين محليين بالفساد دون تقديم شكاية، أو دون انتظار تقارير التفتيش، فذلك ليس موقفا نضاليا البتة، لكنه حقيقة هو مناورة إعلامية هدفها تسجيل نقاط سياسية فارغة، على حساب سمعة الناس ومصالح الدولة.
ما فعله وزير الداخلية في لحظة اليوم هو تثبيت لمبدأ مؤسسي بالغ الأهمية: لا أحد فوق القانون، نعم، لكن أيضا، لا أحد يُجرّم خارج القانون. ومن أراد أن يقيم الحجة على أحد فليتوجه إلى مؤسسات التفتيش أو القضاء، لا إلى منابر القبة. أما البرلمان، فليس منصة لتوزيع الأحكام، بل فضاء للتشريع والمساءلة المسؤولة.
من هنا، يمكن القول إن ما حدث اليوم هو درس سياسي بليغ. درس في التوازن بين الحرية والمساءلة، بين التعبير والانضباط، بين النقد والعدالة. فالمنتخبون ليسوا فوق الرقابة، لكنهم أيضا ليسوا تحت رحمة الانطباعات والأحكام الجاهزة. وكل من يخوض في العمل العام، يستحق المحاسبة حين يخطئ، لا الشتيمة حين يختلف معه خصمه السياسي.
ولعل من واجب النخب السياسية، في مثل هذا الظرف، أن تعي بأن اللحظة السياسية في المغرب لا تحتمل المزيد من تآكل الثقة. فالدولة لا تُبنى على الشك، والمجالس الجماعية، رغم أعطابها، تبقى مؤسسات قائمة، لا مجرد فخاخ للاتهام والتخوين. ولذلك، فإن صوت الوزير حين انحاز إلى منطق القانون، لا إلى غوغائية القاعة، هو صوت للدولة التي تحترم نفسها، وتؤمن أن الديمقراطية لا تُمارس بالشتم، بل تُصان بالمساطر، وتُبنى بالثقة، وتُقوَّم بالمحاسبة، لا بالفضيحة، وأنه حق لنا أن نفخر بوزير داخلية تكنوقراطي يحرص على صورة السياسي أكثر من الفرقاء السياسيين للأسف.