مع الاحترام التام والكامل، والاختياري، أي غير القسري ولا الإجباري، لمعالي وزراء القطاع السابقين، ومع التبجيل والتقدير، وكل الامتنان للخدمات الجليلة التي قدمها للميدان خبراء الزمن السابق، من مناظرة البصري ذات بداية التسعينيات، حتى كل الكتب البيضاء، والأخرى ذات الألوان حول المهنة وواقعها والآفاق، إلا أن إبل الصحافة لم تعد تقبل أن تورد بالشكل الفارط.
أقول هذا الكلام، والعبد لله واحد من أوفى الناس لكل ما عبرناه من ماض مجيد أو كالمجيد في ميداننا، ومن أصدق العباد في تقدير أدوار كل من علمنا حرفا، وكل من كان لنا أستاذا ذات يوم، وكل من علقت في رقابنا ديونه وأفضاله، لكننا فعلا أبناء واقع صحافي جديد ومغاير تماما لما سبق.
الكثيرون من السابقين يعجزون تماما عن استيعاب هذه المسلمة، ويرفضون تصديق هذه البديهية، لكنها الحقيقة وأيم الله.
googletag.cmd.push(function() { googletag.display('div-gpt-ad-1667386526530-0'); });
زمن بيع الجرائد للرقم العجيب الذي كان أستاذنا وصديقنا الجميل محمد برادة، مدير سابريس سابقا، (350 ألف نسخة جميعكم) يقوله لنا جميعا، ويعدنا بأنه سيرتفع إلى رقم المليون، وبعدها سنحقق حلم "جريدة لكل مواطن"، هو زمن مضى وانقضى.
اليوم الناس لا تقرأ الورقي لأن لدينا جهازا بين يديها يسمى الهاتف النقال يضم ما ينشره الورقي، وما تنشره بقية الحوامل، مع فرق كبير جدا، هو أن الناس تعتبر الورقي جديا وذا مصداقية (على الأقل بالنسبة للعناوين التي اشتغلت لسنوات على حماية مصداقيتها ومهنيتها)، لذلك لا يمكن أن نستكين للحل السهل: تسليم مهنتنا (على حد تعبير زميلنا خالد الحري) للساقطين سهوا بالهواتف عليها، وبالكثير من اللايفات المفتقدة للحياة المهنية الحقيقية.
لا بد من حماية ما تبقى من مهنة تدافع ــ قبل جيبها ــ عن الوطن، لذلك لا مفر من تقوية المؤسسات الإعلامية التي بقيت على قيد الحياة، ولن نقول الكبرى لئلا يغضب الصغار مجددا.
سنقول فقط: يجب الرهان على مؤسسات تشغل أكبر عدد من اليد العاملة في القطاع، ومنحها فرصة تطوير نفسها لكي تصبح قادرة على ممارسة (الإعلام الجديد) بحوامله الحالية والقادمة.
ولا تعتقدوا أن تسجيل "لايف" ميت في اليوم، أو نشر عشرين تدوينة وتغريدة في مواقع التواصل، أو تسجيل "بودكاست" أسبوعي هو الإعلام الجديد في عالم اليوم.
هذه كلها تمظهرات تبدو كالجديدة لإعلام لازال عالقا في فخ القديم، وكلما ظهرت أمامه ثغرة تغيير حقيقية يلجأ خائفا إلى السابقين لكي يقولوا له بنفس الخوف "نحن نرفض التغيير، ونريد بقاء الوضع على ما هو عليه".
هذا الخوف المرضي دليل آخر من الأدلة المفجعة على حالة الضعف التي يمر منها مشهدنا الإعلامي، والتي يلزمها علاج حقيقي بالصدمة لكي نشفى منها.
ومجددا، ومع الاحترام التام لمعالي السابقين ولكوكبة الخبراء وكبار المتخصصين والأكاديميين والأساتذة المبجلين، إلا أن الكلام الكثير والكبير لا يوافقه على أرض الميدان إلا فعل قليل، بل وأحيانا لا يرافقه أي فعل.
فقط، هي الجعجعة الكبرى أمام انعدام الطحين. لذلك لا بد من حل.
سيسأل السائل: ومن كلفكم أنتم بأن تكونوا الحل؟
هذا سؤال وجيه له إجابتان فقط: الأولى هي أننا بقينا في الميدان نشتغل، ولم نهرب إلى أي حل سهل وجبان، بل وقفنا وقاومنا، وعانينا فعلا من أجل البقاء، وبقينا رغم أن الكل تنبأ لنا بالفناء، وهذه واحدة تحسب لنا وإن رفض القوم تقديم شهادة الصدق عنها، لأغراض كثيرة في نفس كل يعقوب زميل لنا في المجال.
أما ثاني الأجوبة فهو أن الميدان، بحمد الله، مفتوح أمام الجميع، ومجال الإصلاح هذا يتطلب تقديم كل الاقتراحات، العاقل منها والبعيد عن الذكاء، والمفروض أن نتحاور وأن نتدافع وأن يدافع كل منا عن تصوراته دون نحيب لا يحل أي إشكال، ودون إقحام الحمقى بيننا في النقاش ومن رفع عنهم القلم وتعودنا منهم العبث الذي يهرب منه العقلاء، وبعدها سيكون لكل حادث حديث، وسنرى إن كانت وصفتنا أقدر على إنقاذ هذا الميدان، أم أن وصفات السابقين لازالت تستطيع تحمل مزيد من "تسخان الماكلة البايتة" دون خوف من تسمم أخير ونهائي يقتل المجال مرة أخرى وأخيرة.
مجددا نقولها بكل صدق الكون: هذه لحظة مفصلية جديدة في تاريخ هذه المهنة، نتمنى ألا يقتلها السابقون بنفس الرصاصات التي قتلت اللحظات المفصلية الأخرى.
نتمنى ذلك، ونعتقد أنه سيتم، فالرصاصات القديمة نفذت، أو تلاشت قوة بارودها، وأصبحت مجرد "فرشي ما كيقتلشي"، وهذا الميدان اليوم في ظل التحديات الحقيقية والكبرى، التي تنتظر الوطن، لا يقبل إلا الرصاص الحي القادر فعلا على الدفاع عن الحرفة وقبلها عن هذا الوطن.