ابن كيران... حين يصير الخطاب تهجماً مموهاً على المؤسسات

بقلم: ايمان الرازي الثلاثاء 03 يونيو 2025
IMG-20250603-WA0140
IMG-20250603-WA0140

ما قاله عبد الإله ابن كيران ليس سوى استمرار لنفس الأسلوب الذي دأب عليه منذ أن انخرط في لعبة السياسة بتناقضاتها وأقنعتها: كلامٌ يلبس عباءة النصح والمواطنة، لكنه محشو برسائل ملغومة ومبطنة بالتحريض المقنع، وتلميحات تُغلف الوقائع لتظهر بمظهر الاعتراض المشروع بينما هي، في جوهرها، طعن في صميم رموز الدولة ومؤسساتها. لكن الخطير في الأمر ليس مجرد اختلاف في الرأي، بل في الطريقة الماكرة التي يُهيّأ بها الرأي العام ضد مؤسسات سيادية تحت ذريعة الحديث عن “المبادئ” و”المواقف”، وهو ما يجعل من خرجة ابن كيران الأخيرة نموذجاً صارخاً لمحاولة اللعب على التناقضات لزرع الشك في نفوس المواطنين تجاه رموز الدولة، بدءاً بالمؤسسة العسكرية، وانتهاء بمن يقودها.

فأن يأتي الرجل –بكل ما يحمله من رمزية بصفته رئيس حكومة سابق وأمين عام لحزب سياسي– ليُعلق على قضية وطنية ودولية بمنطق الشخص “الحشمان”، ويُسقط في كلامه إيحاءات تمسّ مؤسسات الدولة دون أن يصرّح، فهذه ممارسة لا تخلو من خبث سياسي. هو يعرف تماماً ثقل كلماته وموقعه الرمزي، ويُدرك أن أي تعبير صادر عنه يُحتسب، ويوزن، ويُقرأ في سياقه المؤسسي. ومع ذلك يصر على أن يظهر بمظهر "المواطن العادي" الذي لا يفعل سوى التعبير عن رأيه، بينما هو في العمق يصوغ خطاباً تحريضياً ناعماً يحاول أن يُضرب به الأساس الذي تستند عليه الدولة، أي مؤسساتها السيادية، وعلى رأسها القوات المسلحة الملكية.

إن استهداف مؤسسة الجيش عبر التلميح هو استهداف لعمق السيادة الوطنية. وابن كيران، الذي يحاول أن يوحي أنه لم يذكرها صراحة، لا يجهل أنه حين يتحدث عن أعمال تقع فوق تراب الوطن –ويُحملها أبعاداً سيادية– فإنه لا يمكنه القفز على الحقيقة التي يعرفها الجميع، وهي أن مثل هذه القضايا تقع تحت الإشراف الكامل للقيادة العليا للقوات المسلحة الملكية، أي تحت إمرة القائد الأعلى ورئيس أركان الحرب العامة جلالة الملك. وبالتالي، فإن التلميح بالإدانة أو الاستنكار في هذا السياق لا يمكن فصله عن دلالته المباشرة: التشكيك في قرار المؤسسة العسكرية، وبالتالي المساس برمز السيادة الوطنية، وهي سابقة خطيرة لا تليق بشخص شغل رئاسة الحكومة، ويعرف تماماً التراتبية التي تقوم عليها الدولة.

لكن الأدهى من ذلك أن ابن كيران يحاول الظهور بمظهر المظلوم المستهدف، ويقدم نفسه كصاحب علاقة جيدة مع المؤسسات، بل ويطمئننا –بصلف مريب– أن “أي محاولة للوقيعة لن تُجدي نفعاً”، متناسياً أن أصل الوقيعة ليس فيما يُقال عن كلامه، بل في كلامه نفسه. الوقيعة ليست في ردود الآخرين على تصريحاته، بل في تلك التصريحات ذاتها التي لا تنفك تُفتت الثقة، وتزرع الشك، وتحرض الناس بشكل غير مباشر ضد قرارات المؤسسات، عبر خطاب مشوش يتنقل بين الرمزية والمظلومية والتلميح الخبيث. لا أحد في حاجة إلى أن يصب الماء في الرمل، لأنه ببساطة، الماء الذي يصبه ابن كيران هو الوقود الحقيقي لمحاولات زعزعة ثقة المواطن بمؤسساته.

ليس من حق ابن كيران –ولا من حق غيره مهما كان ومهما كانت صفته– أن يُوظف موقعه الرمزي وماضيه السياسي لتمرير مواقف تضرب التماسك الوطني في العمق، ثم يقول إنه فقط “يُعبر عن رأيه”. هناك فرق شاسع بين حرية التعبير، وبين استخدام الكلمات كخناجر تُطعن بها المؤسسات دون أن تُلطخ اليد مباشرة. وفرق أكبر بين النقد البناء، وبين هندسة خطاب يبدو ظاهره وطنياً، لكنه يُبطن إساءة خطيرة تمس ما هو أسمى من الأشخاص أو الحكومات: تمس رمز الدولة، ووحدة قرارها، وهيبة مؤسساتها.

حين يختار مسؤول سابق أن يتحدث بلغة “نحن نعتبر أن هذا لا يجوز”، فإن عليه أن يعي تماماً أن استعمال ضمير الجمع ليس بريئاً، وأن تعميم الحكم في قضايا ذات حساسية سيادية يعني بالضرورة إما الجهل الفادح بحدود المسؤولية، أو محاولة مُمنهجة لبث روح الاعتراض باسم الشعب، بينما الحقيقة أنه لا يمثل في هذه اللحظة سوى صوته وصوت عشيرته الحزبية. وكلامه هذا –برمته– ليس سوى محاولة يائسة لاستعادة مجدٍ سياسي قد ولّى، عبر اللعب على أعصاب المرحلة وأعطابها.

إن استعمال المؤسسات كوقود لمعركة رمزية لا تخدم سوى نزعات الزعامة الفارغة أمر مرفوض، بل ومدام يكاد يرقى إلى محاولة التستر خلف "الغيرة الوطنية" لتوجيه رسائل مشفرة ضد المؤسسة العسكرية، وضد من يقودها، هو إساءة صريحة مهما تلطفت عباراتها أو تجملت بلغة الأدب. فلا أحد فوق النقد، لكن حين يصبح النقد أداة للغمز واللمز في قرارات سيادية، فإننا نكون أمام موقف خطير يستدعي الوضوح، لا الغموض، والمسؤولية لا الاستعراض.

ابن كيران لم يكن شجاعاً، بل متهوراً. لم يكن غاضباً لأجل الوطن، بل مدفوعاً بتوازنات داخلية تحكم حزبه المترنح. والنتيجة: خطاب يُسيء للدولة بلباس الوطنية، ويطعن المؤسسات تحت قناع النصيحة، بينما يقف صاحبه بين شهوة التأثير وخوف الانكشاف.

- دة إيمان الرازي. فاعلة سياسية وأستاذة جامعية.