الأمن الوطني.. مدخل إلى النجاعة الديبلوماسية

رحاب حنان الأحد 18 مايو 2025
maxresdefault-71
maxresdefault-71

إن اللغة في بنيتها المعجمية الدلالية ليست هي اللغة في نطاقها التداولي وفي إبدالاتها الرمزية، فإذا كانت العلاقة بين الدال والمدلول علاقة اعتباطية عند الاتجاه البنيوي، فإن هذه العلاقة تنزاح عن الاعتباطية في المنحى التداولي، بحيث يصير انتقاء كلمة ما واستبعاد أخرى لا يتم إلا بفعل إرادة ما، أو قصدية ما. وهكذا فإن استخدام عبارة "الجهاز الأمني" غير استخدام عبارة "المؤسسة الأمنية".

لا يتعلق الأمر بالإطار القانوني فقط، حيث لا يتم الإحالة في المدونات القانونية على كلمة "جهاز"، وحيث تفيد "المؤسسة" كل تنظيم يتوفر على عناصر من مثل: التخطيط، التدبير، الهرمية، تحديد المسؤوليات، وجود برنامج، التوفر على رؤية...

فإذا كانت المدونة القانونية تسعف في اعتبار المديرية العامة للأمن الوطني مؤسسة، لها قوانينها، وأهدافها، وتنظيمها، فإن ما نقصده بالمؤسسة يتجاوز هذا الإطار القانوني إلى المعنى السياسي الوظيفي باعتبارها حاملة لتصور واستراتيجية.

ولا نقصد بالوظيفية السياسية، ما قد يفهم منه أنها جزء من الصراع حول السلطة أو تدبير الشأن العام، أو التنافس الانتخابي، أو التموقع الإيديولوجي، مما هو لصيق بالأدوات الحزبية.

بل المقصود منه أنها جزء من مؤسسات الدولة السيادية التي لها مهام في إطار من الرؤية الشمولية ذات الامتدادات الزمنية في المستقبل، وغير الخاضعة للتنافس الحزبي، ولا تعبر بالتالي عن إرادة أي قوة إيديولوجية أو مالية.

كما نقصد من ذلك أنها تتجاوز الإيحاءات التي تختبئ خلف كلمة "جهاز" والتي تقصر مهام الأمن الوطني على الوظائف التقليدية للشرطة (القبض على المجرمين، تنظيم السير والجولان، الاستنطاق، كتابة المحاضر...)، وهذا لا يعني كذلك تنقيصا من هذه الوظائف التقليدية، لكننا نقصد أن هذه الوظائف إذا لم يتم فهمها ضمن الإطار العام لاستراتيجية المؤسسة الأمنية، فلن تفهم حقيقة الوظائف التي تؤديها.

وبالعودة إلى لحظة "المفهوم الجديد للسلطة" سنفهم التغييرات التي لحقت وظيفة الأمن الوطني بالمغرب، عبر نقله من حالة "الجهاز" إلى وضع "المؤسسة"، التي لها أدوار تؤديها ضمن نسق رؤية شمولية لملكية القرن الواحد والعشرين.

الأمن.. من الردع إلى المعنى/القيمة

بالعودة إلى الزمن الماضي سنجد أن دلالة الأمن/البوليس اقترنت عند المغاربة بالردع الذي يتضمن مدلولات تحيل على حقل "الخوف" أساسا. إنه ذلك الخوف المستبطن للشعور الجمعي الذي لم يكن قد تخلص بعد من تاريخية زمني "السيبة" و"الاستعمار". وهو خوف إشكالي إن صح التعبير، إذ إنه ذلك الخوف الذي يتحرك بين ثنائية الرغبة والنفور.

ويأتى الرغبة يتشكل الشعور به من ذلك الإصرار المغربي الجماعي على المحافظة على الاستقرار، حتى ولو كان على حساب الحقوق، ولذلك ظلت الانتقالات المغربية نحو هوامش الحريات محسوبة بدقة وبطيئة إلى حد ما، بإيقاع متوافق عليه موضوعيا بين السلطة والمجتمع.

أما النفور، فقد كان بسبب تلك الحكايات الملتصقة ب"عنف السلطة الأمنية"، ويمكن العودة حتى إلى السجلات الأدبية والتخييلية عموما التي كانت تتحدث عن تلك الفترة، بحيث سنجد تناسلا لحكايات "الواشمة/ لاراف / السيلول في الكوميساريات/ التعليق،،،".

لقد كان أكبر تحد أمام مؤسسة الأمن الوطني في نظام سياسي انطلق مع بداية الألفية الثالثة من فلسفة العدالة الانتقالية، الموازنة بين استدامة الاستقرار والاستنبات الجديد للبنيات الأمنية من منطلق مواطناتي.

وقد نجحت المؤسسة الأمنية في هذا العبور، بدليل أنه حتى أشد المنتقدين للمؤسسات الوطنيةـ حين يتم استدعاؤهم في قضايا مختلفة لاستنطاقهم أو حين يوضعون تحت الحراسة النظرية بإشراف من النيابة العامة المختصة وفق القوانين الجاري العمل بها، فإنهم ينوهون بالطريقة الفضلى التي يتم التعامل بها معهم في المكاتب والمقرات الأمنية، إذ يصعب إنكار الواقع في مثل هذه الحالات، في حين أنه في الماضي كان يسود الحديث عن التعذيب في المخافر، وانتزاع الاعترافات بالإكراه، وتزوير المحاضر، لدرجة أن محكيات المعتقلين السياسيين في الزمن الموسوم ب"الجمر والرصاص" كانت تتفق أن الإحالة على المحكمة كانت تعني خلاصا من جحيم "الكوميساريات".

وحين نتحدث عن هذا العبور، فلا نقصد به إلا العبور من الردع إلى المعنى، الذي نقصد به الإيحاءات الإيجابية لمعنى الأمن الحقيقي، والذي يستدمج النفسي والاجتماعي والبيداغوجي.

النفسي باعتبار حالة الارتياح الجماعي الذي يترك أثرا حميدا في النفس لحضور الأمن في الفضاءات العامة، ونستذكر هنا مقطعا من "سكيتش" شهير للثنائي "بزيز وباز" حيث يستغربان من خوف المواطن حين تمر أمامه "سطافيط" رغم أنه مكتوب عليها عبارة "الأمن"، حتى ولو لم يكن مرتكبا لأي مخالفة، بينما اليوم يقع العكس بحيث إن حضور الأمن في المشهدية العامة أصبح عامل اطمئنان وفخر معا.

والاجتماعي، لطبيعة الأدوار المجتمعية التي تقوم بها المؤسسة الأمنية، وخصوصا في لحظات الكوارث الطبيعية، وفي التظاهرات الكبرى، وفي عمليات الإنقاذ، ومؤازرة الضحايا، والمساهمة في حملات التبرع ذات الصبغة الوطنية، ولعل لحظة "الكوفيد 19" كانت من اللحظات التي عبرت فيها المؤسسة الأمنية عن هذا الحس الاجتماعي السامي، والذي يجسد معاني الإيثار بالنفس.

أما البيداغوجي، فيتجسد داخل بنيات المؤسسة نفسها، من خلال مكافأة العناصر الأمنية التي تجسد قيم التضحية والنزاهة وتحمل المسؤولية بأمانة، ومن خلال العناية الفائقة بأسر المنتسبين إلى هذه المؤسسة، وخصوصا الاهتمام بالمتفوقين من أبناء موظفي الأمن الوطني، كما يتجسد خارجيا من خلال الشراكات التي نعقدها مختلف المديريات الجهوية والإقليمية مع أكاديميات وزارة التربية الوطنية ومديرياتها الإقليمية سواء في تأمين محيط المؤسسات التعليمية، أو في نشر الوعي الأمني والبيئي، والسلوك المدني في الشارع العام، عبر الورشات التي يتم تأطيرها في عديد المدارس والثانويات. (اليوم الوطني للسلامة الطرقية على سبيل المثال لا الحصر).

كل هذا يحمل دلالات الانتقال نحو المعنى، أي أن يصبح عمل المؤسسة الأمنية له معنى ودلالة في حياة المجتمع، لكي يترجم الشعار الشهير للشرطة عبر العالم: الشرطة في خدمة الشعب. والذي يعكس الانتقال من "المجتمع الأمني" إلى "الأمن المجتمعي".

الأمن وتحديات مكافحة الجريمة والإرهاب المعاصرين

قد يقول قائل إن مكافحة الجريمة هي ممارسة تقليدية لأحدى الوظائف الشرطية، ولكن ما ينبغي الانتباه إليه هو تطور مفهوم وأشكال الجريمة نفسها.

فالتطورات الرقمية المتسارعة، منحت آفاقا جديدة لعمل شبكات الجريمة، بحيث تراجعت نسب الجرائم الفردية عالميا، فيما تصاعدت نسب الجريمة المنظمة، والتي دخلت طورا من التشبيك العابر للدول والقارات.

بل إن شبكات الجريمة المنظمة تطورت إلى حدود إيجاد آليات تنسيق بين شبكات المخدرات وشبكات تجارة الأعضاء البشرية، وشبكات الاتجار في البشر، وشبكات التهجير غير النظامي، وشبكات تهريب الأموال والتحف، وشبكات التزوير، وشبكات القرصنة الرقمية.

وهذا المعطى فرض تحديث المرفق الأمني، من حيث التكنولوجيات الحديثة، ومن حيث تأهيل الكادر البشري، ومن حيث وضع استراتيجيات للعمل تدمج بين الاستباقية وبين التدخل الآني، وبين التوقع المبني على وقائع وإحصائيات وتجارب.

وقد نجحت المؤسسة الأمنية في الحد من الجريمة المنظمة وطنيا، وفي تفكيك العديد من العصابات، بما فيها القادمة من الخارج، والتي كانت تحاول توطين أعمالها القذرة.

ولأن الإرهاب يتقاطع مع شبكات الجريمة المنظمة، باعتبار أنه من جهة ينتعش في مناطق التوتر وغياب القانون، وباعتبار حاجته لهذه الشبكات في أغراض مختلفة (الحصول على السلاح، تأمين تهجير عناصره المكشوفة أمنيا، ترويع المجتمع...)، فإن الخبرة الأمنية المغربية استطاعت توجيه ضربات قاصمة للخلايا الإرهابية.

كما أن المؤسسة الأمنية في إطار الحرب المغربية على الإرهاب توجد في طليعة المؤسسات الوطنية المندوبة لهذه المعركة الوطنية التي لها علاقة بتحصين الأمن في أبعاده المادية والروحية.

وهكذا نجدها الأكثر استيعابا لاستراتيجية مكافحة الإرهاب، باعتبارها تجمع بين الوقائية، والاستباقية، من جهة، وبين التنوير والتحصين من جهة أخرى حتى يكون المجتمع في صلب هذه المعركة، والجمع بين آليات الردع القانونية والآليات الحقوقية العاصمة من حدوث انزلاقات أو انتهاكات.

مكافحة الجريمة والإرهاب والمسارات الدبلوماسية

إن النجاحات المغربية في مكافحة الجريمة المنظمة والإرهاب العابرين للدول والقارات، جعلت من بلادنا مرجعا دوليا على هذا المستوى، وهو ما جعل المؤسسة الأمنية المغربية تنتقل من التأمين المحلي من خطر هذه الآفات إلى المساهمة في المجهود العالمي في الحرب على الإرهاب والجريمة.

ولم تكن المساهمة المغربية من موقع التابع، ولا حتى من موقع الشريك فقط، بل كانت من الموقع الطليعي الريادي. وحازت بذلك اعترافا دوليا، وأوكلت لها مهام التخطيط والتدريب والتنسيق في عدة عمليات نوعية.

إن هذا الاعتراف الدولي تم تثمينه من طرف المؤسسة الوطنية عبر تحولها إلى أداة من أدوات القوة الناعمة في خدمة التطلعات الوطنية المشروعة لتثبيت المغرب قوة إقليمية فعلية من جهة وقوة دولية صاعدة من جهة أخرى.

إن الواقع العالمي المطبوع بعودة الحروب، والنزاعات المسلحة، وبتناميالحركات الإرهابية، وبتطور أشكال الجريمة المنظمة، يجعل التعاون الدولي على هذا الصعيد حاجة أممية وإنسانية.

ومن هنا اكتسبت الدبلوماسية الأمنية راهنيتها عالميا، وأضحت الدول المتقدمة على مستوى القوة الاستخباراتية والمتطورة في عمل مؤسساتها الأمنية، تحوز على عناصر قوة دبلوماسية كذلك. فتحقق تبعا لذلك اختراقات لصالح مصالح بلدانها السياسية والاقتصادية والتنموية.

واليوم يصح أن نقول أن السياسة الخارجية الناجعة لبلدنا تستفيد من قوة المؤسسة الأمنية، كما يستفيد منها القطاع الاقتصادي باعتبار أن نعمة الأمن تساعد في جلب الاستثمارات الأجنبية، ناهيك عن السياحة والرياضة (الخبرة المغربية في تأمين التظاهرات الرياضية الكبرى)، وقس على ذلك.

لقد أضحت المؤسسة الأمنية مسندة للمجهود الوطني دبلوماسيا وتنمويا في الآن نفسه، وهي عنوان قصة نجاح مغربية ملهمة لباقي القطاعات.